على الرغم من التبدّل الحاصل في مواقف قوى 14 آذار من موضوع الحوار والأخذ والرد بالنسبة للملف الحكومي الذي مضى عليه حوالى السنة من دون أن يتحرّك بعد التعطيل المبرمج من تلك القوى التي ربطت الملف الحكومي بمجريات الأزمة السورية، وإعادة كتلة “تيار المستقبل” النظر في موقفها من الجلوس مع “حزب الله” في حكومة جامعة، تمّ الموافقة على الإنخراط فيها بفعل الجهود الحثيثة المحلية والإقليمية والدولية وفقاً لقاعدة 8/8/8 التي تقضي بإعطاء 8 وزراء لفريق 8 آذار، و8 وزراء لفريق 14 آذار و8 وزراء لرئيس الجمهورية ميشال سليمان والرئيس المكلف تمام سلام والنائب وليد جنبلاط، على أن يكون الوزير الثالث من حصة رئيس الجمهورية شيعياً ليحقق التوازن بين فريقي 8 و14 آذار عند الضرورة، وهذه الصيغة كان قد طرحها الرئيس بري بالتشاور مع حليفه النائب جنبلاط، لمواجهة التطورات الأمنية المتسارعة بعد تكرار حوادث التفجير الإرهابية، بمواقف تحصّن الداخل اللبناني وتسحب ذرائع التعطيل وتؤمن الحد الأدنى من الأجواء الإيجابية لإنجاز الاستحقاق الرئاسي حيث رأى الرئيس بري أنه سيصبح “في مهب الريح”، إذا لم يسبقه تشكيل حكومة وفاقية تسقط “حكومة الأمر الواقع” التي أعلن الرئيس سليمان والرئيس المكلف تمام سلام العزم على إصدار مراسيمها قبل منتصف كانون الثاني المنصرم.
هذا الجو المتفائل بالنسبة للإنجاز الحكومي الذي سيمهّد حتماً للإستحقاق الآخر الأكثر أهمية، ألا وهو انتخابات رئاسة الجمهورية قبيل نهاية شهر أيار المقبل، عزاه البعض الى التقارب الذي حصل بين واشنطن وطهران، والى نتائج الزيارة التي قام بها جون كيري وزير الخارجية الأميركي للرياض، فيما عزاه آخرون الى انعقاد مؤتمر جنيف – 2 لإيجاد حل سياسي سلمي للأزمة السورية والحرب الدائرة هناك، هذه الحرب التي توسعت الى العراق وتهدّد بالتوسع الى لبنان، بفعل استيراد مناخاتها الى الأراضي اللبنانية، مع ما يرافق هذه المناخات من تفجيرات إرهابية وتنظيمات إرهابية، وما شاكل.
ها هو لبنان اليوم يقع من جديد تحت سندان المداورة في الحقائب، التي باتت العقبة المتبقية في طريق التشكيل حيث ظهرت في نتائج اقتراح المداورة وتداعياته محاولة سافرة لتحميل التيار الوطني الحر والعماد ميشال عون مسؤولية عرقلة تشكيل الحكومة والسعي إلى استثارة شرخ بين الجنرال وحليفيه حركة أمل و”حزب الله” عدا عن الشهية النافرة التي تثيرها وزارتا الطاقة والإتصالات الاستراتيجيتين لدى العديد من الكتل بعد الأعمال التأسيسية والإصلاحية التي قام بها وزراء التيار المتعاقبون على هاتين الوزارتين وسط الكثير من العرقلة والتشويش على إنجازاتهم سواء في تنظيم قطاع الإتصالات وتطويره أم في الأعمال التخطيطية والتنفيذية الخاصة بقطاعي الكهرباء والنفط حيث باتت الأمور على أبواب المباشرة الجدية بعمليات التنقيب والإستخراج.
المؤشرات تدل على مناورة ماكرة طبخت من خارج الحدود عبر إثارة المداورة وتوقيتها لإستدراج شق في الحلف الوطني العريض الحاضن للمقاومة وخياراتها المحلية والإقليمية من خلال السعي مجدداً لخلخلة العلاقات بين التيار الوطني الحر وكل من حركة أمل و”حزب الله”.
وهذا ما أعلنه رئيس تكتل “التغيير والاصلاح” العماد ميشال عون بقوله إن “قضية المداورة ملغومة ولا يمكن أن أتفهّمها أيّاً كانت النتائج المترتّبة على رفضي، فالمداورة مرفوضة في شكلها ومضمونها وتوقيتها على حدّ سواء”.
وهكذا، تحوّلت “المداورة” بين ليلة وضحاها إلى “لغم” تقف الحكومة “الجامعة” على أعتابه، وعليه يتحدّد مصيرها، فإمّا توضع “استثناءات” وإما تصبح فكرة الحكومة بحدّ ذاتها غير قابلة للحياة.
بذلك باتت المداورة في الحقائب الوزارية تشكل العقبة أمام تأليف الحكومة، ففي حين يرفض البعض المداورة بحجة أن الفترة الزمنية للحكومة المقبلة لا تستحق التغيير في المواقع الوزارية، يعتبر آخرون أن في المداورة صحة للحياة السياسية في لبنان.
ولكن يبدو أن الجميع نسي أو تناسى أن صحة هذا البلد ضعفت بسبب من يطالبون اليوم بأمر هم كانوا أول وأساس من نسفه، فبجردة حسابية بسيطة منذ عام 1992 وحتى اليوم نلاحظ أن أرباب السياسة في لبنان تمسكوا كل بوزارته وتحديداً السيادية أو الخدماتية.
وبإختصار إختلفت حجج المداورة والنتيجة واحدة: مصلحة الزعيم قبل مصلحة المواطن وفي حال كحالنا تصح المطالبة بمداورة المصالح لا مداورة الحقائب: ففي بلد مثل لبنان وفي أضيق الأوقات: المداورة لن تتخطى كونها “عدالة نظرية”، بينما، عملياً، هي أقل من رحلة طائفية في مواقع سياسية، حيث التمسك بمبدأ المداورة في تولي الوزارات بين الطوائف المشاركة في تكوين الحكومة.
وأبرز ما أفضت إليه جهود إخراج الحكومة السياسية الجامعة في لبنان من معتقلها، هو تمديد فترة الانتظار للجهود التي يبذلها “حزب الله” مع رئيس “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون لتليين موقفه المعترض على المداورة في الحقائب الوزارية.
فهل تتحكّم “المداورة” بمصير البلد وحاضر ومستقبل مواطنيه، مع العلم أنها لم ترد في “إتفاق الطائف” ولا حتى في الدستور ومقدمته؟
والسؤال، هل هناك مَن ينتظر نتائج مؤتمر جنيف ويختلق الذرائع لعرقلة تشكيل حكومة لبنانية جامعة؟
على الأرجح أن انتظاره سيطول وسيبقى المواطن اللبناني يدفع الثمن.