ما عاد التكفير ظاهرة في أرض العرب كلّها، وإنما أصبح ثقافة تتعمق وتتجذَّر في العقول والنفوس لتطرد ثقافات التسامح والرحمة والتعددية والحوار ، ولتحلَّ محلّها ثقافات التعصُّب والقتل والكراهية والذبح والتنكيل . وهي ثقافة إن سمح لها أن تبقى مسيطرة لمدة طويلة فإنها ستحول السياسة والثقافة في مجتمعاتنا العربية إلى اطر بدائية متخلّفة تحكمها افكار ظلامية.
فالتكفير في جوهره، هو استمرار لثقافة العنف السياسي في المجتمع العربي الذي كتب عنها الكثير منذ ثمانينات القرن الماضي . وفي حينها وضع اللًّوم على الأزمات الاقتصادية والظروف الاجتماعية كمقدمة لمناخ ملائم لتواجد ونمو التطرف والارهاب ، بالإضافة الى أن البيئة السياسية والثقافية العربية نفسها فيها خصائص تشجّع وتدفع نحو اللجوء إلى استعمال العنف السياسي، سواء من قبل السلطة أو من قبل بعض الجماعات في المجتمع . ومن بين أهم تلك الخصائص تمركز السلطة بجميع اشكالها السياسية والمالية والإدارية والرمزية في أيادي فرد او مجموعة صغيرة ، وبالتالي غياب الحريات والوسائل الديمقراطية المعروفة التي يمكن أن يلجأ إليها المواطنون عند خلافهم أو صراعهم مع سلطة الحكم .
بالمقابل كان من بين أهم عوامل صعود وتيرة العنف السياسي، وعلى الأخص المادي منه، هو الفهم المتخلف والخاطئ للإسلام، وعلى الأخص الجزء المتعلق بموضوع الجهاد . وبالطبع تبيَّن أن العنف السياسي استند إلى تأويلات وقراءات خاطئة للنصوص الإسلامية عندما اصبحت بوصلته كلّ مطالب الحق والعدل والإنصاف، وإسكات كل معارض لاستبداد وسفاهات الظلاميين.
وكالعادات المكتسبة، اصبحت ثقافة العنف قابلة للانتشار السريع وللتخفي وراء ألف قناع وقناع، لتطلّ برأسها دورياً عبر العقود والقرون، وللجهوزية والقابلية للاستعمال من قبل التكفيريين أو الانتهازيين من السياسيين أو الحمقى في كل مؤسسات المجتمع .
واذا كان العنف السياسي قد تميز عبر التاريخ بمحدوديته وفي مستويات تدميرية بسيطة والذي يمكن امتصاص آثاره السلبية وتجاوزها ، غير انه انتقل اليوم اليوم من عنف سياسي، على مستوى السياسة والاقتصاد والإعلام والاجتماع، تمارسه الكثير من سلطات الدول العربية وتقابله وتردُ عليه بعض الجماعات في بعض المجتمعات العربية إلى مستويات الإرهاب والجريمةبمعنى آخر لقد لبس العنف السياسي ثوبي الإرهاب، والجريمة، بكل ما يمثلاه من بشاعات دموية مجنونة انتحارية عبثية لا تستثني طفلاً ولا امرأة ولاشيخاً طاعناً في السّن، ولا يرعيان حرمة لمسجد او كنيسة او خلوة أو مدرسة أو مستشفى، ولا ينتبه لقيم الشعار الأساسي الذي ترفعه، أي شعار الإسلام .
يصدق ذلك الوصف على ما تفعله “داعش” وجبهة “النصرة” ، كما يصدق على ما تفعله قائمة طويلة من أسماء الحركات التكفيرية والعنفية التي تتوالد يومياً بأعداد وصور مذهلة .
ولكن ما العمل؟
المطلوب هو بروز تضافر جهود شعبية عربية واسلامية ، على المستويين الوطني والقومي العروبي، وبتنسيق تام مع المرجعيات الرسمية الوطنية والقومية والاسلامية المعتدلة بهدف اطلاق مشروع نهضوي واضح وشامل وقادر على الدفع السلمي المنظَّم لإصلاح الدولة والمجتمع ولإيقاف الغزوات الخارجية المعيبة للوطن العربي كلّه، ما لم يحدث ذلك في الحال، فإن العروبة سيخطفها التكفيريين ، وبعضاً من الدول العربية سيختفي، وسيعلن عن نجاح مشروع التفتيت في أرض العرب كلّها .
^