هناك خطابين ومقاربتين ونقطتين على السطر بما يتعلق بتأليف الحكومة اللبنانية العتيدة، يليهما نظرتين عن دستورية حكومة الأمر الواقع التي لن تنال ثقة مجلس النواب. سنحلل الخطابين والنظرتين ونطرح تساؤل ثالث في ظل التنازع الطائفي والمذهبي الذي أغرقونا فيه.
بالنسبة لخطاب 8 آذار فهو أنهم أعطوا الثقة لرئيس حكومة من كتلة “لبنان أولاً” من فريق 14 آذار، وقبلوا أن يعتبروه حيادياً، ويريدون المشاركة بحكومة جامعة تتساوى فيها قوى 8 و14 آذار والباقي لجبهة النضال الوطني والرئيس المكلف المنبثق من 14 آذار وفخامة الرئيس الميال لخطاب 14 آذار والمدعوم من القوى الإقليمية الداعمة لقوى 14 آذار. في المحصلة سيحصل تحالف 8 آذار والتيار الوطني الحر على 9 وزراء، والوسطي وليد جنبلاط على وزيرين، وتحالف قوى 14 آذار ورئيس الجمهورية والرئيس المكلف على 13 وزير؛ أي القبان لصالح 14 آذار.
أما خطاب 14 آذار فهو أنهم لا يريدون المشاركة بحكومة فيها حزب الله لأنه يحارب في سوريا، ولا يريدون أن “يشرعنوا” قتاله هناك من خلال مشاركته بحكومة وحدة وطنية. ورغم أن شعارهم هو “لبنان أولاً”، ولكن نكاية بالنظام السوري وتعاطفاً مع حلفائهم الإقليميين، لا مانع لديهم من الفراغ في لبنان كرمى عيون سوريا. ويقولون، لا نريد مشاركتكم ولكننا كذلك لا نريد المشاركة أنفسنا، فلنذهب إلى حكومة حيادية، والبعض حددها بحكومة تيكنوقراط (تقنية)؛ علماً أن الرئيس المكلف من عمق 14 آذار ومواقف رئيس الجمهورية مؤخراً انحصرت في التصدي لمواقف 8 آذار.
أما عن دستورية الحكومة، فقوى 14 آذار تقول أن صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب من قبل مجلس النواب ورئيس الحكومة المكلف الذي تم إصدار مرسوم تكليفه بعد أن حصل على ثقة 124 نائباً، هما المخولان دستورياً إصدار مراسيم تشكيل الحكومة واستلامها مقاليد الحكم واعتبارها حكومة تصريف أعمال إذا لم تنل ثقة مجلس النواب؛ وهذا كلام صحيح ودستوري. وأجاب فخامة رئيس الجمهورية السيد حسن نصرالله مشدداً على ذلك باختتماه خطابه بكلمة: ونقطة على السطر.
أما قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر وجبهة النضال الوطني فقد حذرت من أنها لن تعطي الثقة لحكومة أمر واقع. من هنا تعتبر قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر أن حكومة نالت ثقة مجلس النواب بجميع أعضائها وتحولت إلى حكومة تصريف أعمال باستقلالة رئيسها لا تتساوى مع حكومة لم تنل الثقة إلا برئيسها، وعليه، لن تسلم وزراء هكذا حكومة وزاراتهم. وقد اختتم السيد حسن نصرالله هذا الموقف بالقول: لا نعترف بحكومة لا تنال الثقة ونطالب بحكومة وحدة وطنية ومن ساواك بنفسه ما ظلمك… ونقطة على السطر.
وهنا يأتي دور التحليل. إن موقف 8 آذار هو موقف ميثاقي بامتياز مبني على روحية الميثاق الوطني والمنطق العلمي. فهو ميثاقي من منطلق حكومة الوحدة الوطنية، وهو موقف علمي من منطلق نوع الثقة للحكومتين. أما موقف فخامة الرئيس، فهو موقف دستوري بامتياز ملتزم بالنص الدستوري حرفياً ولكنه يفتقد المقاربة العلمية وروحية الميثاق. أما ما يتعلق بالمقاربة العلمية، فإن السبب الذي يبني عليه فخامة الرئيس مطلبه بتشكيل الحكومة هو عدم الوقوع بالفراغ، وخصوصاً عند الاستحقاق الرئاسي. وعليه، إذا لم تنال حكومة الأمر الواقع “الدستورية” ثقة مجلس النواب، تتحول إلى حكومة تصريف أعمال، أي كالحكومة الحالية، أي الفراغ. أما عن روحية الميثاق، فإن تشكيل حكومة “رغم أنف” الآخرين وعدم نيلها الثقة (وأشدد على عدم نيلها الثقة)، هي طعنة دامية في قلب الميثاق الوطني. أما عن “النقطة على السطر”، فإن استخدام هذا التعبير من قبل السيد حسن نصرالله كان موقفاً سياسياً من كتلة نيابية وشعبية كبيرة (هي وتحالفاتها) كرسالة إلى الرئيسين أن هذه الكتلة لن توافق “دستورياً” على حكومة أمر واقع. أما إجابة فخامة الرئيس فكانت كما قال أحد صقور 14 آذار وكأنها “بيي أقوى من بيك” (وكان قد استخدمها مطالباً رئيس الجمهورية بتنفيذ ما هدد به). فإذا أصر فخامته على تطبيق الدستور حرفياً في ظل هذه الأوضاع الحرجة، عندها يحق للآخرين كذلك المطالبة بتطبيق الدستور حرفياً بوجه فخامة الرئيس. لقد تم انتخاب الرئيس سليمان وهو ما زال قائداً للجيش من دون تعديل المادة المتعلقة بالسماح لموظفي الدرجة الأولى بالترشح لأي نوع من الانتخابات قبل استقالتهم بمدة من وظيفتهم. إذن فإن رئاسة العماد سليمان ليست دستورية، فلا يحق له أصلاً إصدار المراسيم؛ فما بني على باطل فهو باطل. أما المسألة الدستورية الثانية، فهي أنه في حال نالت حكومة “الأمر الواقع” الثقة (وهذا غير متوقع)، فهي ثقة مشكوك بدستوريتها لأنها ستأتي من مجلس نواب انتهت صلاحيته الشرعية ومدد لنفسه “رغم أنف” الشعب اللبناني الذي هو وحده، “حسب الدستور”، مصدر السلطات. أما المسألة الدستورية الثالثة، فهي أن صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني لم تنتقل بعد اتفاق الطائف إلى رئيس مجلس الوزراء السني، بل انتقلت إلى مجلس الوزراء مجتمعاً بمناصفته بين المسلمين والمسيحيين، فكيف نقوم باستبدال حكومة نالت الثقة بحكومة لن تنال الثقة؟ كيف نستبدل حكومة نالت الثقة بمسلميها ومسيحييها وسقطت باستقالة رئيسها السني الفرد، بحكومة لن تنال الثقة لا بمسلميها ولا بمسيحييها وفقط برئيسها السني الفرد؟ أما المسألة الدستورية الرابعة، فهي حكومة تكنوقراط (تقنية). بعد انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الإجرائية والتنفيذية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، تم التشديد على منع حكومة تكنوقراط، ممنوع دستورياً أن يكون هناك حكومة تكنوقراط في بلد نظامه ديمقراطي برلماني. إذا أعلنت إسرائيل الحرب على لبنان من يتخذ القرارات؟ الطبيب والمحامي والعسكري والسفير الذين لا يمثلون الشعب اللبناني الذي هو دستورياً مصدر السلطات؟ أم الحيادي الذي لا لون له ولا رائحة ولا يمثل الشعب اللبناني الذي هو دستورياً مصدر السلطات؟ ماذا سيكون موقف هذا الوزير الحيادي من موضوع النفط، هل سيستثمر جميع الحقول مرة واحدة أم حقلين أم كل حقل على حدى؟ ماذا سيكون موقف هذا الوزير الحيادي من موضوع الكهرباء، هل سيبقي على السفن التركية وهل سينفذ المخطط الموضوع أم له نظرة أخرى؟ وكيف ستتمكن حكومة “حيادية” (إذا وجد أصلاً حيادياً يتعاطى الشأن العام) من تمرير مقرراتها على مجلس النواب “غير الحيادي”؟ إن القوى السياسية في لبنان هي نتيجة انتخابات الشعب الذي هو مصدر السلطات دستورياً، وممثليه هم من يجب أن يديروا البلد دستورياً.
والآن نصل إلى المقاربة الطائفية والمذهبية. إن رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب، ورئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان، وشيخي عقل الطائفة الدرزية، والحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني، كلهم يرفضون حكومة الأمر الواقع؛ وهؤلاء يمثلون جميع الشرائح والأفراد من طائفة الموحدين الدروز. وهنا لن أتوجه إلى تيار المستقبل، فهو لا يرى إلا نفسه ولا يعترف إلا بشهدائه شهداءً للوطن، بل سأتوجه إلى صقر من صقور 14 آذار، رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع. ألم تحصل المصالحة في الجبل تحت مظلة البطريرك صفير الذي تعشقون وتؤيدون؟ ألم تحصل المصالحة الثانية في الجبل معك شخصياً؟ هل تريد إقصاء الطائفة الدرزية بجميع مكوناتها من المشاركة باتخاذ القرارات الوطنية؟ ألم يعلمنا التاريخ أن إقصاء أي طرف في جبل لبنان خصوصاً هو إقصاء لكل لبنان؟ لدى الشيعة مقاومتهم ودعمهم الإقليمي ورئاسة مجلس النواب، ولدى السنة حلفائهم الغربيين والإقليميين ورئاسة مجلس الوزراء، فالشعور بالغبن لديهم لن يصدقه أحد، ولكن الدروز لا يتمتعون بهذه الامتيازات. أم أنك تظن أن الرئيس سليمان هو بشارة الخوري والرؤساء الحريري والسنيورة وسلام هم رياض الصلح؟ وتذكر أن صيغة الخوري-الصلح كانت مدعومة من أحد عمالقة الشيعة عادل عسيران وأحد عمالقة الدروز مجيد أرسلان. من هو البديل الشيعي في طروحاتكم، عقاب صقر؟ ومن هو البديل الدرزي، مروان حمادة؟ هل نسيت سنين إقصاءكم وقمعكم، أم هو ذاك التفسير النفسي أن من يتعرض للقمع هو بحد ذاته مشروع قمعي؟ وهنا أريد أن أنوه بموقف حزب الكتائب والرئيس أمين الجميل المتمايز عن غيره، فهل يا ترى لأنه إبن جبل لبنان ويتحسس بمطالب شريكه الرئيسي في جبل لبنان؟ أم لأنه إبن من تحالف مع كمال جنبلاط في إحدى الحقبات وأخ من تحالف مع فيصل أرسلان في حقبة أخرى؟ أم لأنه من رحم الكتائب المسيحية التي كانت السباقة في مقارعة المنتدب الفرنسي من أجل استقلال لبنان؟ أم لأنه من عائلة دفعت ما دفعت من الشهداء على مذبح لبنان من دون الحاجة إلى ملايين الدولارات لمحاكمة القتلة، حباً بلبنان وحفاظاً على السلم الأهلي فيه؟
**