تسمّرنا ليل الاثنين الماضي على شاشة التلفزيون نستمع إلى مقابلة مدير مخابرات الجيش اللبناني الأسبق وسفير لبنان الأسبق لدى فرنسا جوني عبدو. كانت المقابلة طويلة حيث قام الجنرال السفير عبدو بتحديد تعريفات تتعلق بالسيادة والرئيس القوي والأدوار الإقليمية في لبنان ومن يقف وراء الاغتيالات السياسية وغيرها، حيث قام كعادته بتمرير بعض المعلومات بطريقة استخباراتية فذة.
أما ما يتعلق بالسيادة، فقد قال عبدو: “أنا كنت ماشي ورا الشهيد الشيخ بشير من منطلق السيادة، ومشيت ورا الرئيس الشهيد رفيق الحريري من منطلق السيادة”. لقد لفتني هذا الاعتراف من رجل مخابرات ورجل ديبلوماسية، فقد جرّم نفسه بنفسه. كان الرئيس الشهيد الشيخ بشير الجميل يمثل الحلم والقدوة لأكثر من نصف اللبنانيين، حيث تخطت شعبيته طائفته ومنطقته لتنتشر على كامل المناطق المسيحية، شرقية كانت أم غربية، وضمن جميع المذاهب المسيحية، كما أحبه العديد من المواطنين اللبنانيين من الطوائف غير المسيحية؛ ذلك بالإضافة إلى احترام خصومه له، حتى ضمن أشدهم خصومة. ولكنه، وكي يستطيع أن ينفذ أهدافه، إضطر، وأشدد على كلمة إضطر، إلى التحالف العسكري والسياسي مع إسرائيل؛ عندها كان عبدو مديراً لمخابرات الجيش اللبناني. إذن فقد كان يتبع للشيخ بشير آنذاك، الذي كان متحالفاً مع العدو الرسمي والدستوري للجمهورية اللبنانية، كما كان القائد الأعلى للمليشيات المسيحية بوجه المليشيات السنية والشيعية والدرزية اللبنانية المتحالفة مع سوريا. إن التحالف مع أية جهة غير لبنانية لمحاربة خصمك اللبناني هو أمر غير مقبول، ولكن أن يأتمر مدير المخابرات الوحيدة للدولة اللبنانية آنذاك بأوامر المتحالف مع العدو الرسمي للبلاد، هو أمر مستغرب، أليس كذلك؟ أما الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فإننا ما زلنا نذكر كيف كان “الشيخ رفيق” الممثل الرسمي للعاهل السعودي في اجتماعات سويسرا والتحضير لاجتماعات الطائف. ألم يكن تبوئه مركز رئاسة الحكومة اتفاق سعودي-سوري؟ ألم يكن هو رجل السعودية والمرحوم الرئيس الهراوي رجل سوريا، وبعده الرئيس لحود؟ ناهيكم عن الطريقة التي تبوأ فيها المرحوم الرئيس إلياس سركيس رئاسة الجمهورية، هل ننسى الدبابات السورية التي أتت به؟ وبالتحديد دبابات “النظام السوري” الذي يتهمه عبدو بالمجرم، ألم يصبح عبدو مديراً للمخابرات بعهد المرحوم الرئيس سركيس؟ بالرغم من كل هذه الحقائق، يجب علينا أن نلتزم بتعريفات عبدو “السيادية”!!
واستمر عبدو بتوزيع التعريفات، وسرد قصة قال فيها: “عندما تبلغ الرئيس الشهيد الحريري إقرار القرار الأممي 1559، قام الرئيس الحريري وصديقه النائب مروان حمادة بتبادل إشارة بيديهما تعني أنهما سجلا انتصاراً على السوريين (باللهجة اللبنانية: قرطناهم)”. وقد أبلغ عبدو الحريري أنه عرف ذلك من رجل المخابرات السوري اللواء غازي كنعان، كما لمح إلى أن الوزير غازي العريضي هو الذي أبلغ كنعان بذلك. ما نستنتج من ذلك أن رجل المخابرات السوري الأبرز قد وضع ثقته بعبدو لدرجة أنه أبلغه هذه المعلومات ومن أين حصل عليها. كما نستنتج أن الوزير مروان حمادة كان تابعاً للرئيس الشهيد الحريري والوزير غازي العريضي كان مخبراً للمخابرات السورية، وكلاهما نائبان لبنانيان في كتلة اللقاء الديمقراطي التي كان يترأسها الوزير وليد جنبلاط؛ وكلاهما كانا ضمن “لائحة الشرف” النيابية التي رفضت التمديد للرئيس لحود وطالبت بإعادة انتشار الجيش السوري. علماً أن الوزير العريضي ليس عضواً في كتلة جنبلاط النيابية فحسب، بل هو عضواً في مجلس قيادة الحزب التقدمي الإشتراكي برئاسة جنبلاط. فهل كان عبدو أقرب إلى اللواء كنعان من “مخبره” العريضي كي يقوم كنعان بفضح “مخبره” لعبدو؟ وهل كان كنعان “خائناً” للقيادة السورية لمصلحة الحريري؟ وإذا كان كنعان رجل الحريري في سوريا، لماذا لم يبلغ هو بنفسه الحريري بوجود مخبر بين صفوفه؟ وإذا كان كنعان محباً للحريري إلى هذه الدرجة، لماذا كان ما زال يتولى أمر “مخبره” العريضي؟ وهل كان العريضي بهذا الغباء كي يبلغ صديق الحريري بما يجرمه؟ وإذا كان كنعان رجل الحريري، لماذا أبلغ قيادته بردة فعل الحريري وحمادة على القرار الأممي؟
وتناول عبدو موضوع مقابلة تلفزيون الجديد مع المحقق البوليسي الأول في لجنة التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري برئاسة ديتليف ميليس. وهنا بعض ما قاله عبدو: “لماذا التركيز على الشبهة باللواء الشهيد وسام الحسن؟ لماذا لا نركز على اتهامه لحزب الله والنظام السوري بعملية الاغتيال، والضباط الأربعة بالإهمال و/أو التواطؤ؟ وأن تصدر المقابلة من تلفزيون الجديد بالتحديد وما يمثل، فهو اعتراف صارخ بحقيقة تهمة حزب الله وسوريا والضباط الأربعة. أما اتهام اللواء الشهيد الحسن فهو هراء وغير منطقي وغير علمي”. ما لم يضيء عليه عبدو هو عدم الرد الإسرائيلي على رسالة لجنة التحقيق وعن التعاون الغريب للولايات المتحدة الأميركية، حيث قال الشرطي السويدي في المقابلة أن الأميركيين أبدوا كل الاستعداد للمساعدة ولكنهم لم يتمكنوا من مساعدتهم نظراً لـ”عطل تقني” أصاب أقمارهم الاصطناعية التجسسية في اللحظة التي تم فيها الاغتيال؛ غريب أمر هذا العطل التقني الذي أصاب عيون التجسس الأميركية في لحظة الاغتيال، أليس كذلك؟ كما لم يتطرق عبدو، رجل الاستخبارات المحنك، إلى الفرق بين ما قاله المحقق عن شبهته بالشهيد الحسن وشبهته بحزب الله وسوريا والضباط الأربعة. فقد بنى شبهته باللواء الحسن على معطيات بوليسية وتحقيقات جنائية، بينما بنى شبهته بحزب الله وسوريا والضباط الأربعة على تحليلات قانونية جنائية. أي، باتهامه الشهيد الحسن، فقد تكلم كرجل شرطة، وباتهامه حزب الله وسوريا والضباط الأربعة، فقد تكلم كمدعي عام يريد تحقيق إدانة. أما تلفزيون الجديد الذي أصبح ملطشاً للقاصي والداني، يبدو أن عبدو قد نسي أو تناسى كيف تم إغلاق تلفزيون الجديد لأنه تناول انتقادات لإحدى الدول الخليجية، حيث أغلقه الرئيس الشهيد الحريري “السيادي” بغطاء ودعم كامل من النظام السوري!! وهل تناسى عبدو شهيد تلفزيون الجديد في سوريا الذي قتل على يد الجيش السوري؟ وهل نسي عبدو الاعتداء على تلفزيون الجديد من قبل شبان تابعين لقوى 8 آذار؟ ألم يتبنى تلفزيون الجديد تحليلات فرع المعلومات “السيادي” عن تفجيري طرابلس واتهامه شبان من جبل محسن بالتفجيرين رغم تشكيك ورفض واستنكار قوى 8 آذار لهذا السيناريو؟ ومؤخراً، المشكلة بين تلفزيون الجديد والجمارك، على من محسوبين الجمارك؟ ليس دفاعاً عن تلفزيون الجديد الذي انتقدته شخصياً في إحدى مقالاتي، إنتقدته ولكنني لم أنعته بنعوت لا تليق بحرية التعبير في بلادي. في الخلاصة، فإن كان كلام الشرطي الدولي كاذب، فلا ينتقي ما يريده من كلامه إلا رجل مخابرات تدرب على التضليل. وإذا كان صادقاً، فيعني ذلك أن اغتيال الحريري قد تم بغطاء أميركي ومباركة إسرائيلية وبتعاون حزب الله مع الشهيد الحسن والضباط الأربعة والمخابرات السورية والأميركية والإسرائيلية؛ أي أن العالم بأجمعه تآمر لاغتيال الحريري، فهل هذا سيناريو يدخل العقل؟ فإن لم يصدق عبدو اتهام الشهيد الحسن الذي بناه الشرطي على معلومات جنائية، كيف يصدق اتهام حزب الله وسوريا والضباط الأربعة الذي بناه على “إحساس بوليسي” من دون أدلة؟ وكيف يغفل عبدو “المحنك” عن حقيقتين ثابتتين لا علاقة لهما بأي تحليل، وهما “العطل التقني” الأميركي والصمت الإسرائيلي؟
أما ما رسم ابتسامة عريضة على وجهي فتعريفان لعبدو، الأول عن دعم النظام السوري للحركات الإسلامية التكفيرية وتبرئة المملكة العربية السعودية، والثاني عما اعتبره “لطخة” في سجل المسيرة “السيادية” لرئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع. الغريب أن أسامة بن لادن كان سعودياً، وطالبان تلقت الدعم من السعودية وباكستان، ودولة طالبان لم يعترف بها إلا ثلاثة دول على وجه الكرة الأرضية وهم السعودية والإمارات وباكستان، والحركات التكفيرية تتبع المدرسة الوهابية السعودية. بينما أول مواجهة حصلت ضد هذه الحركات كانت من قبل النظام السوري في حماه وثم في طرابلس، كما أن أشرس معارضة مسلحة بوجه النظام السوري الآن هي من قبل هؤلاء التكفيريين؛ علماً أن السعودية اعترفت مؤخراً أنها “ستستمر” بدعم “الجهاديين” في سوريا رغم “توقف” دعم الغرب لهم. إن كلمة “ستستمر”، تعني أنها كانت تسلحهم و”ما زالت”، أما كلمة “توقف”، فتعني أنهم كانوا يدعمونهم وقد “توقفوا” عن ذلك. أما ما قاله عن الدكتور جعجع، فالغريب أن يربط عبدو سيادية جعجع بنسبة امتثاله لمطالب تيار المستقبل، وإلا، ما دخل تبني برنامج انتخابي بالسيادة؟ هل مناورة جعجع على القانون الانتخابي الأورثوذكسي هي التي “خدشت” مسيرته السيادية؟! ناهيكم عن انتقاده للرئيس أمين الجميل الذي ميز نفسه عن 14 آذار. والغريب أن تميز الكتائب لم يكن بسبب خلافات مع القوات أو الأحرار، ولم يكن محبة بحزب الله أو 8 آذار الذين لا يكفون عن التهجم عليهم، بل تمايز في النظرة الإقليمية والسياسية مع تيار المستقبل ومواقفه من الحركات التكفيرية والجيش اللبناني والاستسلام للمطالب السعودية من دون قيد أو شرط. من هنا يتوضح أن تعريف عبدو للسيادة في هذه الأيام هو مدى عمق امتثال التيارات السياسية لتيار المستقبل ومرجعيته الإقليمية المتمثلة بالمملكة العربية السعودية. نعم، كان عبدو “السيادي” يتبع الشيخ بشير أيام الحرب الأهلية، ثم تبع الشيخ رفيق أيام الوصاية السورية، والآن يتبع الشيخ سعد أيام الحرب التكفيرية؛ كلها بإسم السيادة!! يا ترى، من الشيخ المستقبلي الذي سيتبعه عبدو دفاعاً عن “السيادة”؟
وقد لفتني رفضه اعتبار تيار المستقبل تياراً سنياً صرفاً، بل هو تيار “مختلط” ونوابه المسيحيين هم مسيحيين أقحاح. “إحترنا يا قرعة من وين بدنا نبوسك”، هل تيار المستقبل الممثل السياسي الشرعي للسنة في لبنان، أم هو تيار “مختلط”؟ الظاهر أنه سني عند الحاجة ومختلط عند العازة!!
أما الحقيقة الوحيدة التي لم يخطئ بها عبدو، فهي أن لسان الوزير وليد جنبلاط لا يعبر عن قناعاته. إن جنبلاط هو من ترأس “لائحة الشرف” النيابية ضد السوريين، وهو من أطلق “ثورة الأرز” بوجه السوريين عندما كانت دماء الرئيس الحريري لم تجف وهناك غموض في من يخلفه والدكتور جعجع في السجن والجنرال عون في المنفى وحزب الكتائب تحت نير القمع. جنبلاط الذي اختلف مع الجنرال عون وكان عراب التحالف الرباعي الذي أخرج عون من تحالف 14 آذار، وهو من تبنى ودفع باتجاه المحكمة الدولية، وهو من وجه الاتهام الأول لسوريا، وهو الزعيم غير المسيحي الأول الذي وقع على المطالبة النيابية بإخراج جعجع من السجن، وهو مطلق شرارة 7 أيار بتهديده الحكومة بالويل إن لم تتبنى قرارات 5 أيار. والآن 7 أيار هي “قميص عثمان” 14 آذار والحركات التكفيرية وأحداث طرابلس؛ علماً أن رغم استغلال معاوية لـ”قميص عثمان”، فإن الخليفة الراشدي الرابع والأخير كان الإمام علي… لا بد للحقيقة أن تنتصر. كما أن جنبلاط هو وراء رئاسة ميقاتي للحكومة مما أنقذ تيار المستقبل وحلفائه من تبعات القرارات الاتهامية لقيادات من حزب الله، وكان المتشدد الأكبر لتأمين تمويل المحكمة الدولية رغم معارضة 8 آذار والجنرال عون الذين رضخوا لمطالبه خوفاً من طرح الثقة بالحكومة. وجنبلاط هو الذي يقف خلف استقالة الرئيس ميقاتي بعد زيارته السعودية وتسمية الرئيس سلام مما أدى إلى هذا الشلل الحكومي. نعم، إن وليد جنبلاط هو بامتياز اليد الخفية للسياسة السعودية في لبنان.
وفي الختام، فقد كانت إجابة عبدو عن مستقبل لبنان واحتمال وقوع حرب أهلية فيه: “لا، لا حرب أهلية في لبنان لأن الفريق الذي لديه القدرة على افتعال حرب أهلية وهو حزب الله، لا يريدها. أما الفريق الآخر، فليس له القدرة على افتعال حرب أهلية”. نستنتج من ذلك أن حزب الله حريص على السلم الأهلي، بينما الفريق الآخر، أي 14 آذار، لا يملكون “القدرة” على ضرب السلم الأهلي؛ ليس محبة بلبنان، بل عجزاً عن تخريبه. إذن فإن الحزب الذي اعتبره عبدو عميلاً فارسياً هو الحريص على السلم الأهلي، بينما الفريق الآخر “غير الفارسي” و”غير العميل” هو الذي قد يشعل لبنان ويدخله في آتون الحرب الأهلية لو كان قادراً… ولكن، ما باليد حيلة!! وتريدون منا أن نرضى بتسليم سلاح المقاومة الحريصة على السلم الأهلي؟ فيا سعادة السفير وسيادة الجنرال جوني عبدو، لكم سيادتكم المستمدة من الأشخاص ولنا سيادتنا المستمدة من الوطن.
**