عند التطرق إلى موضوع حقوق المرأة ومسيرتها على مر التاريخ في المجتمعات كافة، نكتشف أن الأداة الرئيسة في تحقيق أهدافها انطلقت من المجتمع المدني من خلال تنظيم تكتلات اجتماعية بمثابة مجموعات ضغط في الدول التي تحكمها الأنظمة الديمقراطية، لكسر نير الذكورية المستمدة من الأديان التي كرست ذكورية الإله وفوقية هذه الذكورية أمام دونية الأنثى؛ اللهم إلا في مجاهل الأمازون حيث كانت السلطة أنثوية.
وعليه، كي نقارب موضوع حقوق المرأة في لبنان بطريقة علمية بعيدة عن الديماغوجية والخطاب الشعبوي الفارغ والأدبيات الغبية للطقم السياسي اللبناني – مثل الديمقراطية التوافقية والأمن بالتراضي والإجماع الوطني وطاولة الحوار والنأي بالنفس والحكم بروحية الميثاق بدل النصوص الدستورية، وغيرها من الهرطقات العلمية الخاصة باللغة السياسية اللبنانية – يجب تحديد وتفنيد هذه الحقوق والبحث في طبيعة المجتمع المدني في لبنان إن وجد.
إن حقوق الفرد في أي دولة تتلخص بثلاث، الحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والحقوق الاجتماعية. أما الحقوق السياسية للمرأة في لبنان فهي مصانة لأن النظام السياسي اللبناني لا يفرق بين الجنسين، حيث تنحصر تفرقته بالطوائف. فإن الحقوق السياسية للمرأة المارونية مثلاً هي خمسة أضعاف الحقوق السياسية للرجل الدرزي أو الكاثوليكي، ليس لأنها امرأة أو لأنه رجل، بل للطائفة التي ينتمي إليها الفرد في لبنان، رجلاً كان أم امرأة. أما اقتراح الكوتا النسائية، فهو إحدى البدع اللبنانية. ألا تكفينا الكوتات الطائفية كي نزيد عليها كوتا أخرى؟ ألا تعلمون أن للمرأة الحق كالرجل بالترشح لأي منصب سياسي أو اجتماعي-سياسي بدءً بالمخترة مروراً بعضوية البلدية ورئاستها والجيش وقيادته والقوى العسكرية كافة وقياداتها والقضاء ورئاسته والنيابة ورئاسة مجلس النواب والوزارة ورئاسة مجلس الوزراء وصولاً إلى رئاسة الجمهورية؟ بحسب الدستور اللبناني، فإن الشعب هو مصدر السلطات، وعليه، فهو الذي يقرر من يريد أن يمثله في السلطات السياسية. إن فرض الكوتا النسائية في ظل هكذا نظام هو رسالة إلى الشعب اللبناني بأنه شعب قاصر ومتخلف يجب أن نفرض عليه الحداثة بالقوة؛ إنها نفس المقاربة الفوقية للتشدد الذكوري ورفض إعطاء المرأة حقوقها واعتبارها إنساناً دونياً. إننا نظاماً ديمقراطياً ولسنا نظاماً نخبوياً، وكأني بالمرأة المظلومة لدهور تريد استخدام وسائل جلاديها لنيل حقوقها. أما الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية التي تؤيد نظرية الكوتا، فلتتفضل هي نفسها وتعتمد الكوتا النسائية التي تطالب بفرضها علينا ضمن لوائحها الانتخابية، نيابية كانت أم اختيارية أم بلدية. ولكن، كما أشرت أعلاه، هو الخطاب الشعبوي الفارغ للطبقة السياسية اللبنانية.
أما الحقوق الاقتصادية، فإن المرأة غير المتزوجة كانت منذ تأسيس لبنان الحديث وما زالت تتمتع بجميع حقوقها الاقتصادية كالرجل، خلافاً للمرأة المتزوجة التي كانت تحتاج إلى إذن زوجها إذا أرادت القيام بمشروع اقتصادي أو تجاري. ومنذ حوالي العقدين من الزمن تم تعديل القوانين التي أطلقت حرية المرأة الاقتصادية في لبنان، فأصبحت حقوقها كالرجل، متزوجة كانت أم عزباء. لم تعد المرأة المتزوجة بحاجة لموافقة زوجها قبل القيام بمشروع اقتصادي. وعليه، فإن المساواة الاقتصادية بين الرجل والمرأة في لبنان أصبحت محققة ومصانة.
وهنا نصل إلى بيت القصيد. إن الأزمة الحقيقية لحقوق المرأة في لبنان مرتبطة بالمساواة في الحقوق الاجتماعية. وعندما نقول المساواة في الحقوق الاجتماعية نعني المساواة في الزواج والطلاق والوصاية على الأولاد والميراث والعنف الأسري والاغتصاب الزوجي وإعطاء الجنسية للأولاد من والد أجنبي. إن الطريقة الوحيدة لاكتساب مطالب مساواة المرأة الاجتماعي هي من خلال المجتمع المدني وتنظيم مجموعات ضغط قادرة على تشكيل تكتلات شعبية لتنتشر على جميع الأراضي اللبنانية وتمثل كتلة ناخبة قادرة على فرض شروطها على المرشح النيابي لدعم مطالبها طمعاً بأصواتها؛ وهنا تكمن المشكلة. أولاً، إن جميع هذه المطالب، ما عدا إعطاء الجنسية لأولاد المرأة من أجنبي، مرتبطة بالأحوال الشخصية وليس بمجلس النواب المنتخب. إن الحقيقة الدستورية التي تنص على أن الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة، لا تطال الأحوال الشخصية التي لا ترتبط لا بالنظام الديمقراطي ولا بالمطالب الشعبية، بل هي قضايا مرتبطة بسيادة الطوائف على رعاياها اللبنانيين. إن سيادة الشعب وسيادة الدولة وسيادة القانون العام، كلها تعتبر سيادات دونية أمام السيادة المطلقة للطوائف. لا يستطيع مجلس النواب أن يقترح ربع قانون قد يمس سيادة القانون الطائفي المطبق على أبناء الطوائف اللبنانيين؛ وجميع اللبنانيين ينتمون إلى طوائف. لا يستطيع مجلس النواب حتى بالإجماع أن يمنع ضرب النساء أو الاغتصاب الزوجي إذا كانت قوانين إحدى الطوائف تسمح بذلك، كما لا يستطيع أن يفرض حق طلب المرأة بالطلاق أو الحصول عليه إذا كانت قوانين إحدى الطوائف لا تسمح بذلك. وهكذا في القوانين المرتبطة بالوصاية على الأولاد والمساواة في تعدد الأزواج والمساواة في الميراث، إلخ. إن الطريقة الوحيدة في إمكانية سيادة مجلس النواب بتشريعات تتخطى سيادة القوانين الطائفية هي من خلال اعتماد العلمنة الشاملة والكاملة وحصر الدين بأمكنة العبادة وحرية ممارسة الطقوس التي لا تتعارض مع قوانين الدولة. إن إلغاء الطائفية السياسية لا تلغي سيادة الطوائف على القوانين التي تنظم العلاقات الاجتماعية بين اللبنانيين، حيث أن إلغاء الطائفية السياسية لا يلغي سيادة قوانين الطوائف على الأحوال الشخصية المرتبطة ارتباطاً أساسياً بالمطالب المذكورة أعلاه. وعليه، فإن تلك المنظمات النسائية التي لا تنفك تعارض وتنتظم للمطالبة بحقوق المرأة، لا تؤدي إلى أية نتيجة. من هنا النصيحة بأن تتعاون هذه المنظمات مع المنظمات المطالبة بالعلمنة. إن العلمنة هي الشرط الأساسي الوحيد لتحقيق هذه المطالب؛ كل الأساليب الأخرى هي “ضحك على الذقون”!
أما ما يتعلق بإعطاء الجنسية اللبنانية لأولاد اللبنانيات المتزوجات من غير لبناني (أجنبي)، فهنا الموضوع مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالمجتمع المدني. وعليه، يبرز السؤال السرمدي: هل يوجد مجتمع مدني في لبنان؟ إن المجتمع المدني يمثل أفراد تنتظم كمجموعات ضغط تعمل لتحقيق مطالبها من خلال التأثير الشعبي على السلطة التشريعية المنتخبة لتمرير قوانين تخدم أهدافها في المجتمع. لذلك، عادة ما يمثل المجتمع المدني النقابات المهنية والتكتلات الاقتصادية. أما في لبنان، فبدل من توحّد العمال من أجل مصالحهم والمهندسين من أجل مصالحهم والموظفين من أجل مصالحهم كي يشكلوا مجموعات ضغط لانتزاع حقوقهم، يتحالف المهندس والعامل والموظف من طائفة معينة بوجه تحالف العامل والموظف والمهندس من طائفة أخرى، فتضيع المصالح المهنية بوجه التحزب الطائفي. وعليه، لا يوجد مجتمع مدني في لبنان، بل مجموعات طائفية لديها مطالب طائفية غير مرتبطة بالمصالح المطلبية لفئات الشعب. هل تذكرون معارضة “البندورة” المدنية؟ هل تذكرون ردة فعل الشارع المسيحي عند تهجمهم على سيارة النائب نديم الجميل؟ إنه إبن من كان الحلم لحوالي نصف اللبنانيين. ماذا برأيكم سيكون موقف الشارع الدرزي لو ألقوا البندورة على سيارة النائب وليد جنبلاط؟ وماذا سيكون موقف الشارع السني لو ألقوا البندورة على سيارة النائب سعد الحريري؟ وماذا سيكون موقف الشارع الشيعي لو ألقوا البندورة على سيارة رئيس مجلس النواب؟ وهلم جرا. من هنا تبرز المشكلة في هذا المطلب النسائي، لأن المجموعات المؤثرة على متخذي القرار تعمل بحسابات طائفية تتخطى المطالب المجتمعية في المساواة بين الجنسين، حيت تتطلع إلى المساواة أو المكاسب السياسية بين ولدى الطوائف. لذلك، فإن الطبيعة الجغرافية للمحيط الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تجعل حتمية زواج اللبنانيات من مسلمين غير لبنانيين بنسبة تتعدى بأشواط نسبة زواج اللبنانيات بمسيحيين غير لبنانيين؛ وهنا يبرز التخوف من التغيير المجتمعي للدبموغرافيا الطائفية اللبنانية. وهناك توافق عام لدى اللبنانيين بعدم تمرير القوانين التي تثير القلق الطائفي في لبنان نظراً لطبيعة نظامه الطائفي الاجتماعي-السياسي. وهناك أسباب أخرى تتعلق بالتقاليد المتجذرة للمجتمع اللبناني “الفخور” بأصوله إلى درجة قد تصل إلى العنصرية في بعض الأحيان. فهل نتخيل لبناني من عائلة التدمري أو التميمي أو رفسنجاني أو أبو البخوش أو ضيائي أو متولي أو بوردانوف أو روبنسون أو سميث؟ وهنا لا تستطيع المرأة أن تعطي إسم عائلتها لمولودها، فزوجتي “مدام جنبلاط” كما زوجات معظم رجال العالم. وإلا أكون أنا “مسيو يزبك”، وهذا خارج عن العادة في حوالي 80% من مجتمعات العالم (ولم أقل 95% كي لا أثير حفيظة النساء المتحمسات)؛ ناهيك عن الأزمات الإدارية والتنظيمية والتكاليف المالية الباهظة في تعديل تسجيل الأولاد تحت خانة عائلة الأم.
فقبل التصفيق لموضوع ما أو الهيجان من أجل مطلب ما، إقرؤوا واطلعوا كي تستطيعوا أن تناقشوا وتدافعوا وتتحمسوا لأي موضوع قد يشكل تغييراً جذرياً في مسار مجتمعاتكم؛ علماً أن الوطن هو انعكاساً لمجتمعه. وإلى أن يرى المجتمع المدني النور في بلادي، تصبحون على وطن حيث المواطن فيه منسلخ عن مواطنيته لصالح طائفته.
**