من يزور طرابلس هذه الايام يصاب بصدمة كبيرة ، انها المدينة الأجمل على الساحل الشامي الممتد من اللاذقية الى غزة ،وهي مدينة المقاومين الذين لم ينقطعوا منذ طرد جيوش الاستعمار من مدن الساحل. هنا تتلألأ عاصمة الشمال في ابنية تشبه المتاحف ، حيث يتحاور الحاضر مع الماضي بلا تعقيدات، فما بقي من الغزاة ليس سوى معالم استطاعت المدينة ان تحولها الى جزء من هويتها.
اما اليوم فهناك من يريد تحويل طرابلس من مدينة الحركة الوطنية، التي رفضت اتفاقية سايكس بيكو بعناد المقاوم الذي يرفض ان يغادر خندقه، هذه المدينة التي تشعر فيها ان جذورك العربية مازالت تضرب عميقا، فضلا عن انها بوابة غابة الارز في بشري ، حيث يفوح الأرز برائحة الزمن، وعطر الأرض ، يتم تحويلها اليوم الى خط تماس بين اللبنانيين .. لكن خط التماس هذا فقد شرعيته ، تماما مثلما فقدت “الثورة” السورية شرعيتها، فاذا بها تتحول الى خط تماس سعودي- قطري مشتعل، واذا بأدوات الجريمة التي صنعتها الانظمة الخليجية في سورية تطل برأسها من جديد عبر التفجيرين المروعين اللذين ضربا المدينة.
الفقر والجوع الذي ينتشر في احياء الفيحاء الداخلية ويمتد الى سهل عكار، جاعلا من الشمال اللبناني المنطقة الأكثر حرمانا في لبنان هو نتاج سياسة التجاهل التي صنعتها الحريرية السياسية ، التي لا تريد من مدينة الشمال سوى اصوات الناخبين، ولم تعمل طوال العقود الماضية على بناء مشاريع منتجة، تنقذ ميناء طرابلس من الركود، وسكانها من البطالة.
عندما تتجول في احياء المدينة القديمة تصاب بالذهول من الاهمال، كأن اصحاب الملايين في المدينة يكرهون مدينتهم التاريخية، ويتطلعون الى النموذج الخليجي، حيث راكموا ثرواتهم، وهم في ذلك لا يختلفون عن المضمر في مشروع اعمار بيروت، الذي قام بمحو ذاكرة المدينة.
في طرابلس اليوم صراع طبقي ولكن من نوع آخر ، الفقير يقتل اخاه الفقير والأغنياء يمولون رؤساء المحاور ويتفرجون على مدينتهم وهي تحترق.
هذا لا يعني ان الجرائم التي ترتكب في الفيحاء يجب ان لا تُعاقب، فهذه مسألة اخرى مرتبطة بضمور الدولة اللبنانية ، كما لا يعني ان نغمض عيوننا عن رؤية البعد الدموي الذي جعل من الجغرافيا قدر هذه المدينة.
طرابلس تنزف كغالبية المدن العربية، ونزيفها يحمل رائحة التواطؤ العربي والخليجي التي تقاد اليها سورية بسبب التدخل الخارجي الذي يريد قتل الشعب السوري وتدمير ممتلكاته .
اللغة المذهبية صارت عادية هنا، وهذا ليس مسؤولية ابناء باب التبانة وجبل محسن وحدهم، بل هو مسؤولية لبنانية عامة، يتحملها اولا واساسا انهيار سياسة النأي بالنفس وعساكر الميليشيات المسلحة التي اندفع بتمويل داخلي الى جانب الوية “الجماعات الارهابية المسلحة ” في سوريا ، من اجل انقاذ “جبهة النصرة” ، تحت حجج مذهبية واهية جسّدها شعار “الجهاد” في سبيل ، الذي انتشر في بيروت وصيدا الى جانب صور احمد الاسير وامثاله الذين رحّلوا الى مزبلة التاريخ .
ما قام به تيار المستقبل ليس خطأ فرضه التصاقه بالأجهزة السعودية فقط، بل هو اعلان صارخ بأن الحدود اللبنانية لم تعد موجودة. فحين تستباح حدود سورية من لبنان فهذا يعني ايضا ان لبنان صار بلا حدود. لقد ادخل سعد الحريري واعوانه مفهوما جديدا للحدود الجغرافية هي الحدود المذهبية ، وهي حدود مائعة وسائلة، لا تعني سوى ان الحروب المذهبية بلا حدود او قواعد.
ألم يفكر دعاة “السما زرقا ” بأن السكوت الأمريكي والاسرائيلي عن دخول عساكر مسلحة الى سورية يثير الريبة، ويشير الى قرار بتحويل سورية الى حقول للقتل والموت؟
فيحاء لبنان تنزف بوصفها فيحاء الشام، وفيحاء الشام تجد نفسها غريبة عن لغة مذهبية تهيمن عليها.
غربتان تعيشهما المدينة، وسط معركة مفتوحة سلاحها القصف والقنص.
مأساة طرابلس ليست في هذه الحرب الدائرة التي لا تشبه الحرب فقط، بل في قرار تحويلها الى مدينة معلّقة على ابواب الخراب.
مأساة طرابلس هو تحولها الى ساحة من هذا النوع، وفي الساحات كل شيء مباح، كما ان مأساة مدينة الشمال فهي اشارة الى ان لبنان كله مهدد بأن يتحول الى طرابلس.