في خضم أحداث المنطقة وما نشهده من ذبح وتنكيل وإجرام وتكفير، صُعق المجتمع اللبناني بجريمة هزت الرأي العام والضمير الإنساني وزعزعت أسس حضارة جبل لبنان. فقد قام شابان مجرمان بالتعدي على شاب أعزل وقاما بقطع عضوه التناسلي لأنه تزوج بشقيقتهما من دون رضاهما، وكأنها ملك لهما… “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم إمهاتهم أحرارا؟”
وكانت المفاجأة أن المجرمان من بلدة بيصور ومن طائفة الموحدين الدروز والمجني عليه من عكار من الطائفة الإسلامية السنية. وبدأت التعليقات تتوجه إلى الطائفة وإلى بيصور متهمين الدروز بالوحشية وأهل بيصور بالتخلف والجاهلية. كما تمادى البعض ممن يدعمون “القاعدة” و”النصرة” وقالوا أن الإسلام من الدروز براء، وهذا القول رسم على وجهي ابتسامة خففت من هول وقع خبر الجريمة؛ إنها الشهادة الوحيدة التي يجب على الدروز أن يعتزوا بها والصفة الحسنة الوحيدة التي نتجت عن هذه الجريمة الشنعاء، فـ”إذا أتتك مذمتي…”. أما الصاعقة الثانية التي نزلت على رؤوسنا فهي التصريح الأول لرئيس بلدية بيصور الذي أعطى نوعاً من التبرير للجريمة المرفوضة قلباً وقالباً.
منذ حوالي الخمسة والعشرون سنة قرأت كتاباً عن الدروز لكاتب مصري يشوه الدروز وينعتهم بجميع النعوت القبيحة والمخزية. عندها غلا الدم في عروقي وتوجهت إلى أحد مشايخ الدروز الأجلاء واخترت أشنع ما كتب ليقرأه. وتفاجأت عندما لم يرمش له جفن، بل تبسم وقال: “الله يسامحهم، إنهم لا يعلمون”. وهنا انتفضت وسألته عن كيفية الرد على هذا المفتري وكيفية عقابه. فأجابني بابتسامته الهادئة: “يا إبني، نحن لا نعاقب، فقط الخالق يعاقب. فلمسلكنا رب يحميه ونحن نلوذ به، فليس الخالق من يلوذ بالعبد. فإن الدين الذي يحتاج إلى سيف يحميه ليس بدين سماوي والإله الذي يحتاج إلى سواعد عبيده ليعبده البشر ليس بخالق الكون… لا إكراه في الدين وكل واحد على دينو الله يعينو”. وغضبت وقلت له: “يا شيخ أين كلامك من تاريخنا؟ فتاريخنا مليء بالحروب والقتال والدماء.” وقابل غضبي بابتسامة حليمة وقال: “هذا تاريخكم يا ولدي وليس تاريخنا. هو تاريخ أهل السلطة والأوطان والزعامات والعقائد الأيديولوجية والبرامج السياسية من غير العقّال. أنتم قاتلتم واقتحمتم وتحالفتم بإسم الدروز، أما نحن فلا مطالب سياسية لنا ولا أهداف كيانية نرسمها، فبالنسبة للموحدين يا ولدي، هذه الدنيا ممراً وليست مستقراً. نحن نقاتل فقط دفاعاً عن بيوتنا وأعراضنا، فنفوسنا ليست ملكنا بل ملك باريها وعلينا له حق الدفاع عنها وصونها وملئها بالمحبة والتقوى والنزاهة حتى تكون جاهزة عندما يريد استعادتها… هي أمانة للخالق في رقابنا، فكيف نستطيع أن نبرر لأنفسنا قتل نفس خلقها الله من أجل سياسة أو غضب أو انتقام؟”. وسألته: ماذا عن أولئك الذين يتزوجون من خارج الملّة؟ فأجابني بهدوء: هذه حرية الاختيار يا ولدي، فقد قال “مولانا التالي” بهاء الدين: “وهل في العدل سوى التخيير؟” يا ولدي، إن الميثاق الذي يرتبط بموجبه المستجيب بعقيدة التوحيد ينص على أن يكون المستجيب صحيح العقل والبدن وأن لا يكون في رق أحد، بل يملك الاختيار لنفسه. لهذا فُرض على الموحدين إلغاء الرق وتعدد الزوجات. إن حرية الإنسان يا ولدي هي أساس مفهوم التوحيد للعدالة الإلهية. إذ لو لم يكن الإنسان حراً في أعماله ومخيّراً في أفعاله، لما استطاع أن يكون إنساناً حقّاً وأن يبلغ تلك الحالة من المعرفة. فالثواب والعقاب هما نتيجتان حتميتان لأعمال الإنسان؛ وأعمال المرء تُردّ إليه. وهنا استغربت مستفسراً: أليس علينا عقاب من يرتد عن الدين إن عن طريق الزواج أو باختيار اعتناق عقيدة أخرى؟ هنا انتفض الشيخ وقال: أبداً يا ولدي، مسلك التوحيد أتى بالاختيار والخروج عنه يكون بالاختيار، نحن علينا أن ننصح لكن الله أعطى للإنسان ميزة الاختيار. من نحن كي نعاقب؟ لسنا إلا عبيد من عباد الله. وسألته عن الجهاد، فابتسم وأجاب: جهادنا بالكلمة الصادقة والنية الصافية والمعاملة الحسنة وفعل الخير ونشر المحبة واتباع مسلك التواضع والصدق. فقد قال “مولانا العقل” حمزة بن علي: “الصدق هو الإيمان والتوحيد بكماله، والكذب هو الشرك والكفر والضلالة”؛ وكان لقبه “هادي المستجيبين”، لا سيوف ولا قتال ولا فتوحات… فعلينا الدعوة إلى التوحيد والله يهدي من يشاء. وعندما انحرف أحد دعاته وهو نشتكين واعتمد الترهيب والترغيب ولقّب نفسه بـ”سيف الإيمان”، قال له “مولانا العقل” حمزة بن علي: “إن الإيمان ليس بحاجة إلى سيف يعينه”. وقام الموحدون برفض نشتكين وطرده ولعنه. وهنا قلت له منتخياً: ولكنني مستعد أن أضحي بحياتي دفاعاً عن وطني ومحاربة أعدائه بينما أنت لا تقاتل إلا دفاعاً عن روحك وأرضك وعرضك وأهلك وإخوانك. وهنا أجابني بابتسامة عريضة: أتحب لبنان؟ أنا أعشقه. فهو موطن آبائي وأجدادي، في ترابه يرقد أوليائي وساداتي، وفي ظلاله يعيش أهلي وأصدقائي وأقربائي وإخواني. أدافع عنه بالكلمة الجميلة والعمل الصالح والنية الصادقة في التعامل مع إنسانه. أما استخدام السلاح بإسم رب الأرباب، فهذا يتعارض مع عقيدتي التوحيدية لأن إلهي ليس إله الموحدين واللبنانيين فحسب، بل هو إله الكون وجميع البشر. فالنفس التي تنبض في أحشاء أعداء الوطن هي ملك خالقها يحرم عليّ قتلها إلا في حال الدفاع عن النفس. أما إذا ارتفعت حميتي الوطنية، أخلع عني ثوب التوحيد وأرتدي ثوب الوطن، عندها أدافع بعقلي وروحي وأستبسل في القتال والكر؛ أقاتل بإسم لبنان لا بإسم الله.
ولكنني لست من هؤلاء العقّال، ولا أريد أن أنتظر عدالة السماء ويوم الدين للحساب. أنا ابن هذه الأرض ونتيجة هذا العصر وأعتبر نفسي عادلاً باتباعي قوانين البشر العادلة والمنصوصة في شرعة حقوق الإنسان. إني لبناني حتى النخاع وعلماني حتى العظم، ولكنها بيصور التي تعيش في وجداني وفي ذاكرتي. إنها بيصور أم الشهداء ومرقد الأولياء، إنها بيصور منبت الرجال ومنبع أهل العلم، إنها بيصور واحة الحرية الفكرية والتعددية السياسية والانفتاح الاجتماعي بامتياز. كيف نلغي تاريخها ونشطب تضحياتها من جراء جريمة قبيحة كمرتكبيها؟ أليس النبي موسى عليه السلام وأرييل شارون من نفس الدين والعرق؟ ألم يكن بطرس الرسول ويهوذا الأسخريوطي من نفس المدرسة؟ ألم يكن النبي محمد (صلعم) وأبا جهل من نفس القبيلة والمدينة؟ ألم يكن دافينشي وموسوليني من نفس الجنسية؟ ألم يكن مارتن لوثر وهتلر من نفس البلد؟ ألم يكن قايين شقيق هابيل؟
أيجرؤ البعض على تبرير الجريمة باستخدام تعابير الشباك والباب من أجل بضعة أصوات لكرسيه؟ أين التوحيد بما فعلاه؟ أين بيصور من هذه الجريمة البشعة؟ أين الثرى من الثريا؟ فيا عقّال التوحيد، كفاكم انكفاءً في صوامعكم وخلواتكم، فأهل الميثاق ينادونكم ليلوذوا بكم من شرور المجرمين المتلطين بالطائفة بتحويلها من مسلك التوحيد إلى العصبية القبلية البغيضة. أتطردون وتلفظون وتلعنون نشتكين ولا تبادرون إلى اتخاذ موقف صارم وصريح بحق من يدعي التزامه بالميثاق ويرتكب هذا الفعل الشنيع؟ جريمتهما جريمتين: الجريمة الأولى هي إعطاء المغدور الأمان ثم نكثهما لوعودهما والغدر به في عقر دارهما. أليس الغدر هو قمة الكذب؟ أوليس “الكذب هو الشرك والكفر والضلالة”؟ والجريمة الثانية هي الاعتداء على النفس البشرية من غير حق. ليتهم قتلوه، لكانت الجريمة أهون. أما أن يشوهوه بهذه الطريقة الحقيرة التي لا تمت بصلة إلى المسلك والعقيدة وعادات أهل بيصور وأهل التوحيد، فهو ما يثير الغضب والاشمئزاز. إننا ننتقد فقهاء السنة كيف لا ينبرون لمواجهة من يشوّه دينهم من صغار النفوس بفتاوى ترتبط بالقتل والتنكيل والنكاح؛ ماذا نقول بصمتكم الآن؟
بالله عليكم، إنهضوا وواجهوا هؤلاء واطردوهم ومزقوا ميثاقهم، فهي جريمة أشنع من أن تنتقل مع ميثاق وليّ الزمان. إستيقظوا من كبوتكم والفظوهم، وإلاّ، والله، سنلفظكم نحن من قلوبنا ووجداننا تحيزاً لشرف بيصور التي دفعت بأبنائها على مذبح الدفاع عن الأرض والعرض والوجود، وحماية لمجتمع وثقافة هذا الجبل الأشم الذي منه انبثق لبنان الحضارة والرسالة والتاريخ!
**