وانتصرت ثورة 25 يناير (كانون الثاني) في مصر وتم خلع الرئيس محمد حسني مبارك وطغمته الفاسدة وأذرعه الأمنية، إلاّ الجيش، الذي أثبت ولاءه للوطن لا لحكامه ولا لسياسييه. وعندما نقول الوطن نعني به المواطنين، فالوطن من دون شعب كالجسد من دون قلب، جيفة فارغة تصلح طعاماً للغربان. نعم، إنتصرت الثورة آنذاك عندما استطاع الشعب مواجهة القمع الدموي مما أدى إلى تدخل الجيش والعمل على خلع مبارك ثم انسحب وأعطى الشعب القرار؛ وهنا كانت الغلطة.
عندما أراد الشعب أن يتنفس حرية ومساواة في عهد الملكية في مصر قامت النخبة العسكرية المتمثلة بالضباط الأحرار بالانقلاب الأبيض الأشهر في التاريخ، لم تنزف به قطرة دم مصرية واحدة. وفي عهد مبارك، تم الاستغناء عن النخبة العسكرية واستبدالها بالبوليس السري وطبقة من الطفيليات التي تقتات على الفساد وعلى استغلال عرق المصريين خدمة لمصالحها المالية لا مصلحة مصر. وقام الشباب المصري بتحركه الشعبي مطالباً بالإصلاحات، وعندما جوبه بالبوليس السري والقمع الأمني، علا صوته مطالباً برأس الطغمة ومكوناتها. ولكنه لم يدري أن الذي أعطاه النصر “السريع” هو موقف “النخبة العسكرية” التي رفعت الغطاء عن الرئيس وضغطت باتجاه خلعه وجربت أن تحكم. وعندما قام الشعب لمرة واحدة فقط وبتحرك واحد فقط برفض حكم العسكر، إنسحب العسكر فوراً من المشهد السياسي و”ترك” الشعب وحيداً يخوض معاركه. لم يعتد الشعب المصري المشهور بمحبته لمصر أو بالأحرى بعشقه لمصر، أن يدير شأنه بنفسه، خصوصاً الشباب الذي لم يخبر العمل السياسي من قبل أو “التكتيك” الشعبوي والحزبي. فكان أنه عندما أصبحت الأمور بين شفيق ومرسي وكان الشباب الثائر هو “بيضة القبان”، قال: شفيق من فلول النظام والإخوان حلفاؤنا في الثورة، طبعاً مرسي. غاب عن بال هؤلاء الشباب أن من يأتي من “فلول” يكون ضعيفاً ولا يستطيع أن يضرب بيد من حديد. كما غاب عن بالهم أن الإخوان ليسوا حلفاء أحد بل هم حلفاء أنفسهم، كما أنهم لا يدينون بعقيدتهم السياسية لأي مبدأ مؤسساتي أو هوية وطنية أو مصالح شعبية؛ يركبون الموجة ثم يعملون على السيطرة عليها. هذا هو تاريخهم وتلك هي أقوالهم وأفعالهم… رحم الله جمال عبد الناصر الذي كان أول من كشف عن نفاقهم.
كيف ترضون بإجراء انتخابات من دون الموافقة على دستور وطني يحدد صلاحية من ستنتخبون؟ كيف تنتخبون رئيس مجموعة أيديولوجية في غياب دستور جديد مما يجعله قادراً على تمرير قوانين تخدم أيديولوجيته؟ ألا تعلمون أن الأيديولوجيا هي عدوة الديمقراطية بغياب الضوابط الدستورية؟ ثرتم ورفضتم واخترتم بعواطفكم لأنكم لستم متمرسين بالعمل السياسي. الثورة تنبع من القلب، لكن بناء الأمم تحتاج إلى التروي والعقلانية؛ عقلانية النخبة. وهنا لا يسعني إلا أن أشير إلى استشراف رئيس حزب التوحيد العربي الوزير وئام وهاب عن وضع الإخوان المسلمين الذين يدعوهم “الإخوان المنافقين”، عند انتخاب مرسي، حيث قال: “أنا أحيي ثورة مصر ولكنني لا أستطيع إلا أن أشدّد على أن هذه مصر أحمد عرابي وسعد زغلول، مصر عبد الناصر والبابا شنودة، إنها مصر طه حسين وأحمد شوقي ونجيب محفوظ، مصر محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، إنها مصر حرب 73 وخط برليف؛ مستحيل أن ترضى بالإخوان المنافقين ساسة يديرونها أو رؤساء يقودونها. إن هذه الثورة التي أتت بهؤلاء المنافقين إلى سدّة الحكم في غفلة من الزمن وفي ظل ثورة عاطفية وفوضى شعبية، ستطيح بهم في ثورة غضب وطنية مصرية تريد استرجاع نيلها وهويتها وتاريخها… إلاّ الكرامة الوطنية في مصر، لا مساومة فيها”. وقد صدق، وها هو “المنافق” الأكبر في عزلة من التاريخ.
وفي 30 يونيو (حزيران)، وكان الشباب المصري الثائر قد أخذ العبرة بعد سنة من حكم من انتخبه، تحالف الشعب مع الشعب ضد القلة من الخارجين عن الشعب والوطن، وانقض على سلطة النفاق في محيط هائج من أكثر من ثلاثين مليون بشري. أكبر وأعظم تظاهرة سياسية اجتماعية في تاريخ البشرية… حقاً إنك أم الدنيا يا مصر. لم تكن تظاهرة أحزاب أو تنظيمات أو مجموعات ضغط من المجتمع المدني أو بدعوة من طبقات شعبية أو ثقافية أو دينية، بل كانت صرخة شعب وانتفاضة أمة. وعادت النخبة العسكرية إلى لعب دور المؤسسة الوطنية الحقة، وقد أثلج صدرها تصالح الشعب مع نفسه بعد عام من الاضطرابات التي أدمت قلبها. وقامت هذه النخبة بحماية الشعب من القلة المنافقة التي تعرفها منذ عقود وهي التي خبرتها وواجهتها وعاركتها ولجمتها من الداخل ومن مكاتبها في عواصم دول القرار الغربية. واجتمع الجيش بنخب المجتمع المصري فأحاط نفسه بقيادات شباب الثورة والقيادتان المصريتان الروحيتان الأكثر وطنية شيخ الأزهر وبابا الأقباط، بالإضافة لممثلين عن المعارضة والسلطة القضائية والسلطة الإعلامية. أما الأهم فكان قيادة الشرطة التي أنهكتها تجاوزات حكم مبارك الفاسد وجعلتها بمواجهة الشعب مما أدى بعد سقوطه إلى فقدان هيبتها واستشراء الفوضى من جراء ذلك. في ميدان التحرير اليوم رأينا الشعب يحمل الشرطة على الأكتاف، عادت المؤسسة الأمنية إلى حضن الوطن وعادت معها هيبتها.
لكن القوات المسلحة الخبيرة بنوعية هؤلاء المنافقين، لم تعتمد على المقاربات العلمية التي تشابه تذاكي مرافعات المحامين، بل عزلت قياداتهم واعتقلتهم، وأسكتت أبواقهم الإعلامية الفتنوية، وحاصرت تجمعاتهم الاستفزازية. وأخذت القرار التاريخي بتعليق الدستور وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً لمصر للمرحلة الانتقالية بدعم من جميع القوى المصرية الذي اجتمعت عند إعلان القرار. لقد مرّرت الحكم للسلطة الوحيدة التي لا تتوخى الحكم وهي السلطة القضائية الأعلى في البلاد. والآن سيتم تأليف حكومة من الخبراء لتعديل الدستور وطرحه على الاستفتاء ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وفق الدستور الجديد. عندها، مهما كانت توجهات الذي سيصل إلى سدّة الحكم، يوجد دستور “شرعي” حقيقي مستمد من القرار الشعبي الجامع، ليؤطر ويقونن قراراته التي لن يستطيع بها خرق الدستور المحمي من الشعب والقوات المسلحة. ها هي مصر تتنفس الصعداء وتأمل في تحقيق تطور وتقدم حقيقي مستمد من الشعب المصري بجماهيره ونخبه… حقاً، لم يدع هذا الشعب العظيم حجة للتاريخ كي يتحسّر على مارد جبّار أراد أن يحكمه قزم تافه.
وهنا علت الأصوات النشاز من الغرب: إنه انقلاب عسكري، إنه رئيس منتخب من قبل الشعب، إنها ضربة بحق الديمقراطية. أما الصرخة الأعلى والزعقة الأقوى فقد أتت من تركيا التي يحكمها “إخوانها المنافقين” الذين لا يخافون إلا من العسكر، حيث صرحوا بإدانتهم اعتقال السلطة السياسية المنتخبة وكم أفواه “الصحافة الحرة”. غاب عن بالهم أن مصر العروبة ليست تركيا العثمانية، وأن مصر الجيش ليست لبنان الطوائف؛ لا مجال في مصر للفتنة وبث السموم التكفيرية، فهي بشعبها ونخبتها مثالاً يحتذى في تاريخها وحاضرها بقطع رؤوس أفاعي التآمر على وحدتها وعزتها وكرامتها. وهنا اسمحوا لي أن أستعير تعبيراً من الجنرال عون ولكن في سياق مختلف: طز بالعملية الديمقراطية أمام الإرادة الشعبية، طز بالمؤسسات أمام مصير الشعب، طز بالحرية السياسية أمام تطلعات الأمم؛ لقد زحف الشعب بأكمله يقول: كفى! بكل وقاحة تنادون بالحفاظ على “العملية” الديمقراطية، وقد غابت عنكم “روحية” الديمقراطية المتمثلة بمبدأ “الشعب هو مصدر السلطات”. إنكم كتجار الدين الذين يتمسكون بالطقوس على حساب النصوص ويغرقون في الناسوت ويتناسون اللاهوت الذي به يحيى الناسوت. فاعلموا إن كان ناسوت الديمقراطية هي “العملية” والمؤسسات، فإن لاهوتها هو الشعب؛ وعندما يظهر اللاهوت يبطل الناسوت.
وفي الختام، لا يسعني أن أسرق ربيع مصر فأقول إنه عن جدارة أول ربيع عربي، لأنه بامتياز ربيع اختص به الشعب المصري… فهنيئاً لمصر ربيعها الفواح، وهنيئاً للعرب شعبهم المصري، وهنيئاً للديمقراطية حريتها، وهنيئاً للإنسانية هذا الشعب الحي.
**