وانتصر الجيش وسحق الفتنة، هكذا ظننا. ولكن الحقيقة أن الفتنة مستشرية في العقول والحقد يملأ القلوب والأرزة تمزقها المذاهب وآلهتها. لم تؤلمني تصاريح نواب تيار المستقبل المذهبية وادعاءات شيوخهم الفتنوية وأبواق إعلامهم الموجه إلى صدر الأرزة بجيشها وحاميها، كما آلمتني تحليلات الصديق العزيز نديم قطيش – إن صداقتنا تعود إلى ما قبل العام 2005 ولم أقابله منذ أعوام، وذلك للعلم كي لا أشمسه وأقطع رزقه. إن نديم هو من اللبنانيين العلمانيين بامتياز، فإن مواقفه دائماً، كما عهدته، تنطلق من اعتبارات سياسية لا طائفية ولا مذهبية. وعليه، وقبل أن أبدأ بلجم نهيق الآخرين، سأتوجه إلى نديم بدحض تحليلاته بمقاربة سياسية وعلمية بامتياز؛ فبجداله أرتقي بخطابي إلى ما كنت أعلمه عن رقي تعاطيه.
نعم، إني أوافقك الرأي يا نديم، وقد سبقتك بقولها بشهور، لا يوجد هناك “سوبر” مؤسسة اسمها الجيش ومؤسسات دونية في الدولة؛ إن المبدأ هو أن الدولة وحدة متكاملة بجميع مؤسساتها. ونعم، إن الجيش الوطني هو انعكاس لطبيعة المجتمع اللبناني بجميع تناقضاته وتعدديته، فعناصره ليست مستوردة لا من سويسرا ولا من الماوماو ولا من ملكوت السماء. ولكن، في معمعة المعركة، يجب أن تتوقف التحليلات والتبريرات وتتوحد الأقلام والقلوب وتتعلق القوانين والدساتير. أنت تعلم أنه قبل مارتن لوثر كينغ وقبل جون كينيدي كانت الولايات المتحدة منقسمة عرقياً بقوانينها، ولكن الأميركي الإفريقي، ورغم القوانين المجحفة بحقه، شارك بالقتال في صفوف القوات المسلحة منذ حرب الوحدة (أو الحرب الأهلية)، مروراً بالحربين العالميتين وحربا كوريا وفييتنام. كما أن نصف الشعب الأميركي كان ضد احتلال عسكره للعراق، ولكنه لم يبرر يوماً الاعتداء على جنوده رغم قناعته بأنهم جنود احتلال؛ هذه المشاعر يا نديم تسمى “الروح الوطنية”. عند احتدام المعركة يقف كل شيء وتطغى “الروح الوطنية” على كل ما عداها. لو كان الجيش يقوم بمعركة داخلية تنفيذاً لأوامر السلطة التنفيذية، عندها قد يكون هناك نوع من التبرير، مهما كان واهياً، لتسليط الضوء على مكانة الجيش كمؤسسة ضمن المؤسسات الوطنية أو عن طبيعة عديده. أما عندما يكون الجيش مشتبكاً مع عناصر مسلحة اعتدت عليه واغتالت ضباطه وعناصره، فممنوع على أي لبناني يتمتع بـ”الروح الوطنية” أو يملك حتى أدنى درجات المواطنية أن يشكك بمكانة المؤسسة العسكرية أو طبيعة عديدها. إن التنوع الطائفي والمناطقي لشهداء الجيش في هذه المعركة هو خير دليل على تخطي هذه المؤسسة الاعتبارات المناطقية والمذهبية لصالح الرفاقية القتالية كعقل وجسد واحد، كما جسدت هذه الشهادة المثل الأعلى لما نصبوا إليه في المجتمعين المدني والسياسي من مواطنية.
أما بخصوص المدنيين المسلحين، فقد كتبت منذ يومين في إحدى صفحات التواصل الاجتماعي أنهم “مخابرات جيش”، وبالأمس أكدت مديرية التوجيه في الجيش اللبناني ذلك ببيانها الرسمي. وأنت تعلم، لأنك إبن المنطقة التي عشت فيها لسنين، أن صيدا مشهورة بكثرة انتماء شبابها لما كان يسمى “المكتب الثاني” والآن إسمه مديرية المخابرات. أما موضوع زينب، فعطفاً على ما اخترته أنت من مقاطع الفيديو، فإن “المسلح” الذي كان ينادي “زينب” كان من عناصر الجيش اللبناني، وطريقة توجهه ورفاقه العسكريين وهو ينادي زينب كانت واضحة بأنه لم يكن بوضعية هجوم، بل وكأنه يتوجه إلى شخص يناديه. هل نسيت يا نديم العائلة الصيداوية “السنية” الكبيرة “أبو زينب”؟ كان لي صديق منهم وكنا نناديه بـ”زينب” اختصاراً؛ وأنت تعلم أنه بالمؤسسات العسكرية عادة ما ينادي الجنود بعضهم باستخدام إسم العائلة.
أما بخصوص مقتل عنصر لحزب الله، ألم يتم اشتباك بين الحزب وجماعة الأسير قبل أيام من اعتدائه على الجيش وسقط جرحى من الطرفين؟ لماذا لا يكون أحد الجرحى قد توفي؟ علماً أن حزب الله أنكر أي تدخل له في معركة عبرا مع الجيش، نفس الحزب الذي صرح على رؤوس الأشهاد بقتاله في القصير. لقد قالت لي إحدى قريباتي أن رصاصة دخلت من شباك غرفة النوم في البرامية، وأنا من البرامية. لنعتبر كنت أنا في غرفة النوم وأصابتني هذه الرصاصة، فهل ستقوم يا نديم بالادعاء بأن حزب التوحيد العربي شارك في المعركة لأنني أصبت؟ من قال لك أن أي جريح أو ضحية “شيعي” سقط من جراء أحداث عبرا لا يكون نتيجة للقنص الذي طاول الأوتوستراد البحري؛ أي في أقصى صيدا بالنسبة لعبرا. علماً أن حارة صيدا أقرب بكثير لعبرا منها للمدينة، ومركز الأسير يقع تماماً فوق الحارة – قرب مفرق نزلة المحافظ التي تصب في دوّار الحارة. لو لم تكن إبن المنطقة يا نديم لما استغربت تحليلك، أمّا وإنك إبن المنطقة بامتياز، فتحليلك محط استغرابي خصوصاً أنك تغاضيت في تحليلاتك عن الإضاءة على حقيقة أن شباب صيدا وغيرهم من اللبنانيين لم يمثلوا 25% من مناصري الأسير مقارنة بالسوريين والفلسطينيين وغيرهم من الجنسيات العربية “الجهادية”. علماً أنني أقدّر التذاكي في استخدام مقاربات تخدم توجه سياسي معين، ولكن ليس الآن يا صديقي ولم تجف دماء شهداء الوطن بعد. أما ما آلمني، فهو أن استخدامكم معركة عبرا لخدمة مواقفكم السياسية يا صديقي قد استغلها المغرضون، الذين يختلفون عنك بخلفياتهم الفكرية، لتأجيج المشاعر المذهبية المعادية للجيش والوطن. فإن كنت لم تدري أن مواقفك ستؤدي إلى استغلالها من قبلهم، هذه مصيبة، لأني أعلم مدى استشرافك للأمور. أما إذا كنت تعلم وأصريت على المضي في استخدامها، فهنا يكمن ألمي العميق. أما بخصوص تصريحات الست بهية، ففي فمي ماء. إن العلاقة العائلية ومواقفها ومواقف أخيها شفيق معي عند إصابتي في العام 1985 في الصالحية، لا تسمح لي بأي تعليق؛ “بعدنا ولاد أصل والدم ما بصير مي”.
أما أصحاب اللحى ومدعي العفة والغيرة على الطائفة السنية الكريمة من “النوائب” (المصائب) وليس النواب، فكلامي معكم مختلف، لأن مواقفكم من لبنان تنخرها الأحقاد والمذهبية والانسلاخ عن المواطنية وعن الإيمان بلبنان وطناً وهوية. أول “نائبة” هو كبارة، ما شأنك وصيدا؟ لقد امتشقت الحسام مدافعاً عن مسلحي باب التبانة الذين هجموا الاثنين، ومن دون أي استفزاز، على مراكز للجيش اللبناني وليس على دوريات، وقاموا بإطلاق النار مما أدى إلى سقوط شهيد للجيش (بيسوى رقبتك) وعدد من الجرحى (بيسووا راسك). وهددت وتوعدت دفاعاً عن السوريين لأنهم “أخوتك في الدين”، ضد حزب لبناني لأنه من غير مذهب؛ ليس من غير دين، بل من غير مذهب كالعلويين في بعل محسن. فماذا سننتظر من مواقف في حال امتد الخلاف إلى الأديان الأخرى اللبنانية؟ أما صيدا، فلم تعرف في تاريخها هذا الخطاب إلا بدخول صديقك الحميم وقدوتك السامية أحمد الأسير إلى مسيرتها السياسية. إن صيدا هي بوابة الجنوب ورمز التعددية الفكرية والدينية والحزبية. ففي منطقة صيدا ومحيطها باقة من الطوائف السنية والشيعية والكاثوليكية والمارونية والدرزية، وكلها طوائف فاعلة ومشاركة في الحياة الاجتماعية للمدينة وفي قرارها السياسي وتاريخها الوجودي. كانت تُعرف بصيدا فقط، ثم عُرفت بعاصمة الجنوب. لم تكن طرابلس الشام التي أصبحت عاصمة الشمال. فإن كانت صفة عاصمة الشمال تؤذي شعورك المرهف لأن شمال لبنان هو خليط وباقة من الطوائف والمذاهب والانتماءات السياسية والاجتماعية المؤمنة بنهائية لبنان الوطن، وتريد العودة إلى طرابلس الشام نصرة لإخوتك في الدين في سوريا؛ فلن تستطيع أن تنزع عن صيدا الصفة الجنوبية لأن الجنوب فيها وهي في الجنوب. إنها صيدا رياض الصلح وعادل عسيران ومعروف سعد ومصطفى سعد (أبو معروف) ونزيه البزري ورفيق الحريري، كما هي امتداد اجتماعي وسياسي لموسى الصدر وبيار الجميل (الجد) وكميل شمعون وكمال جنبلاط وجان عزيز، ولن تكون إلا كذلك… بتفضل باستنشاق سمومك ولا توجهها نحو صيدا، فـ”ما إلك خبز” فيها.
وهنا أتوجه إلى أصحاب اللحى من معتمري العمائم ومسدلي الشراشف. أنا أعلم أنكم غاضبون من هذه الوحدة الشعبية التي ينالها الجيش ومستاؤون من إخلاص عناصره عامة والسنة فيه خاصة لقيادته؛ إنهم عقل واحد وجسم واحد، وهذا ما لا يخدم تطلعاتكم في سيادة الطائفة على الوطن. أما ما يغيظكم فعلاً أن هذا الجيش الذي ما انفك “يطعميكم قتلة” تلوة الأخرى على رأسه ماروني مسيحي “كافر” وفي رئاسة أركانه موحد درزي “زنديق”. وتصيحون: كرامة العمامة… كرامة أهل السنة والجماعة… كرامة اللحى وذقون الإبل. ويجيبكم الجيش اللبناني بقيادته وضباطه وعناصره: كرامة الأرزة… كرامة الشعب… كرامة دماء الشهداء… كرامة لبنان. إن شهداء الجيش السنة والشيعة والدروز والعلويون والموارنة والأورثذوكس والكاثوليك والأرمن والسريان وغيرهم، هم كرامة أهل السنة والجماعة، كما هم كرامة جميع “الأهل” من جميع المذاهب والأديان؛ لأنهم كرامة لبنان الرسالة الذي يمثل كرامتنا جميعاً. فيا أيها “الداعية” الشهال و”الشيخ” العمري، لن يصل نعيقكم إلى آذان الصيداويين، فقد خبروا أمثالكم من الذين دعوا إلى الانتفاض من أجل نصرة الدين بوجه الأديان الأخرى وبوجه وحدة الشعب والوطن؛ فقد قام الشعب الصيداوي من “أهل السنة والجماعة” بشنقهم في ساحة النجمة… كانا الكابتن حبلي وأبو عريضة الذين ادّعا النخوة والتسلح لنصرة مسلمي صيدا من “طغيان” المسيحيين؛ من أين كان سلاحهما، ومن كان يدعمهما؟ إن التاريخ يعيد نفسه. فحرصاً على رقابكم، ابتعدوا بسمومكم عن عاصمة الجنوب.
وفي الختام، وفي هذا المحيط الملوّث بقاذورات التكفير والتعصب والجهل، سيبقى لبنان منارة الإشعاع وحضارة الإنسان وطهارة الشهداء. فدماء شهداء الجيش اللبناني مياهي المقدسة ودموع أمهات الشهداء إكسير حياتي… لبنان إلهي وترابه هيكلي وأرزه كعبتي!
**