ليس سراً، أنه منذ انتهاء الحرب الأهلية قبل 23 عاماً، لا بل منذ شرارتها الأولى قبل 38 عاماً، لم يتعرض الجيش اللبناني لتحريض كالذي يواجهه في هذه الأيام: حملات في السياسة والإعلام، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في المساجد والمنابر الدينية، في الفتاوى والبيانات والرسائل القصيرة، تنعت المؤسسة العسكرية بأقذع النعوت، يُهدر دم جنود وضباط، يتعرضون للنار، حتى صارت هيبة الجيش على المحك.
في حادثة عرسال الأخيرة، وقبلها في مناطق أخرى بقاعاً وشمالاً، والأمس في صيدا كان الاستهداف واضحاً، لم يرتكب الجناة ما ارتكبوه صدفة، فمن يريد أن ينتقم لقتيل في سوريا، يضرب الجيش ومن يريد أن يحتج على سقوط بلدة أو مدينة سورية بيد هذا الطرف أو ذاك، يصوب على الجيش، الخطير في الأمر أن استهداف الجيش لم يعد يحصل همساً أو تحت جنح الظلام، بل صار على الملأ جهاراً نهاراً.
وجاءت حادثة عبرا بعد عملية وادي القاع كحلقة ثالثة من مسلسل استهداف الجيش، الذي زادت فصوله خطورة مع بدء الحرب الكونية ضد سوريا، في إطار خطة مبرمجة تهدف إلى محاولة تطويق الدور المحوري الذي يقوم به الجيش اللبناني لإبعاد آثار الأزمة السورية قدر الإمكان عن الداخل اللبناني، من قبل فريق أساسي في قوى “14 آذار”، كما يأتي هذا المسلسل أيضاً تطبيقاً وتناغماً مع المخطط الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الخليجي الهادف إلى تدمير سوريا ككيان وتقسيمها إلى دويلات مذهبية وإثنية وعرقية لإنهاء دورها الأساسي في محور المقاومة والممانعة في المنطقة، كونها الدولة العربية الوحيدة ربما التي تقف سداً منيعاً أمام مشروع “الفوضى الخلاقة” الذي ابتدعته أميركا لإراحة كيانها المصطنع “إسرائيل” وإبقائها الدولة القوية الأولى في الشرق الأوسط، فأضيفت الى سجل التحديات أمام الجيش والقوى السياسية بقعة أمنية جديدة، بعد البؤر الأمنية التي باتت تقليدية من طرابلس الى عرسال، كما أتت في وقت كان الجيش يبدي تخوفاً من سلسلة ثغر أمنية قد تفتح الباب أمام مزيد من حالات الفوضى في لبنان، ومنها احتمال انتقال التوتر الى مخيمات الجنوب وبيروت على خلفية الحرب السورية. ولكن هذه المرة أخذ الجيش قراره منذ اللحظة الأولى بحسم الوضع في صيدا وتمكن من السيطرة نهائياً على بؤر الإرهابي أحمد الأسير ونزعها نهائياً من صيدا، وبالرغم من ذلك يعرف تماماً حجم المخاطر التي بدأت تحاول تشتيت قوته من منطقة الى أخرى. وهو رغم أنه تدخل بقوة في الجولة الأخيرة من اشتباكات طرابلس لضبط الوضع، إلا أنه يدرك تماماً أن ثمة محاولات مستمرة من أجل إعادة التوتير فيها، وأن مسلسل استهداف الجيش لإخراجه من معادلة الداخل، من حيث يمكن للمواجهات السنية ــــ الشيعية، والمواجهات بين مؤيدي النظام السوري ومعارضيه أن تأخذ مداها على الساحة اللبنانية، حيث يمكن للنار أن تتمدّد وتحاول الوصول الى قلب الجيش، والضغط عليه لتحييده وتكبيل يديه عن مجريات الوضع اللبناني. لذا، لم تكن عملية اغتيال العسكريين، لمن ربط تسلسل الأحداث من سوريا الى لبنان وتوسع حلقة المتورطين فيها، ولم يكن توقيتها أو تفاصيلها، وبهدفها الرامي الى عزل الجيش واستهداف عناصره ووحدته، أمراً مستغرباً، لأن ما يحدث في سوريا يفرض إيقاعاً موازياً في لبنان: فما بعد عملية القصير يختلف تماماً عما قبلها، والأكيد أن الجيش لم يفاجأ بالعملية، بقدر ما كانت صدمة الاغتيال وطريقته البشعة هي التي أثارت الضباط والعسكريين. فقيادة الجيش سبق أن عمّمت على أجهزتها ضرورة التحوّط من أي استهداف يطاولها، وهي لا تزال تحافظ على مستوى الإنذار نفسه خشية أن تتكرر العملية في غير مكان.
الهدف هو الجيش أولاً وآخراً، إذ فمنذ أحداث نهر البارد، عام 2007، حيث سجّل الجيش اللبناني انتصاراً ساحقاً على الإرهاب في اليوم الخامس بعد المئة مجنباً بذلك لبنان شبح الفتنة التي كانت ستحوِّله إلى ساحة للاقتتال وفق النموذج العراقي، ولو أن كلفة النصر كانت باهظة جداً حيث بلغت في نهاية المطاف 168 شهيداً وحوالى 2400 جريح من بينهم 1000 عسكري أصيبوا بجراح أكثر من مرة واحدة، وعدد الإصابات البليغة فقد بلغ 200 إصابة، ومحاولات استهداف الجيش مستمرة، والخطورة هي أن المزاج الجماهيري الشعبوي المتعصب في المشهد السياسي العام بدأ يصبح اليوم أداة بيد بعض الأطراف لحفظ وجودها ومصالحها ولو على حساب وحدة الوطن ووحدة الجيش، وخصوصاً أن هذا الاستهداف يأتي للنيل من هيبة المؤسسة العسكرية التي شكلت ضمانة الوحدة بأرقى عناوينها ومقاييسها الوطنية والنضالية ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً.
وإن كان مخطط “إرهاب” الجيش اللبناني اتخذ منحى خطيراً في الآونة الأخيرة، لزعزعة الأمن والسلم الأهلي، إلا أن معطيات بارزة تكشفت لدى الجهات الأمنية وأصبحت الأمور على المكشوف، وتكمن في أن هذا المخطط هو حلقة متكاملة إن كان في استهداف المؤسسة العسكرية في الشمال وطرابلس، أو في عرسال، أو في صيدا وغيرها، في محاولة لإجبار الجيش على ترك مواقعه ومراكزه في المناطق الحدودية مع سوريا في الشمال والبقاع، وذلك للدخول بقوة في الأزمة السورية عبر ربط الحدود بعضها ببعض تسهيلا لإدخال السلاح والمسلحين والمرتزقة.
ويبدو أن تصاعد العمليات الإرهابية التي طاولت الجيش وعناصره، والتي أتت تتويجاً للحملات التحريضية التي يقوم بها عدد من “جهابذة تيار المستقبل” الذين تلطخت أيديهم بالدم السوري منذ بداية الأزمة، عبر استقدام المال والسلاح والمسلحين وتهريبهم إلى الداخل السوري إن كان في مناطق عرسال أو وادي خالد أو في تركيا عبر النائب عقاب صقر، هذا التصاعد في العمليات الإرهابية مرده إلى الهزائم الفادحة التي مُنيت بها الجماعات الإرهابية والتكفيرية داخل سوريا وخصوصاً في منطقة القُصير وريف حمص وريف دمشق وغيرها، ووقوع العديد من القتلى والأسرى والجرحى، وهروب أعداد كبيرة من الإرهابيين إلى داخل لبنان في المناطق المحمية في عرسال ومشاريع القاع ووادي خالد ومناطق شمالية أخرى.
فقيادة الجيش على دراية تامة بمخطط استنزاف المؤسسة العسكرية، لذا، فإنها تتعاطى بحكمة ومسؤولية عالية لمواجهة ما يُحاك لها، وإصرارها على إبعاد لبنان عن آتون فتنة مذهبية تدميرية يسعى لها “المتآمرون” في الداخل والخارج، والبقاء في مراكزها ومواقعها في الشمال والبقاع وعرسال وعلى طول الحدود مع سوريا وصيدا، وذلك لإحباط مشروع المصطادين في الماء العكر.
إن مخطط استهداف الجيش بات لا يحتمل التأجيل والتسويف والمماطلة، والمطلوب من كل القيادات السياسية أن تتحمل مسؤولياتها في هذا الظرف العصيب، وأن تطلق يد الجيش للضرب من حديد لبسط الأمن وإعادة الطمأنينة والسلم الأهلي، لأنه إذا استفحل هذا المخطط، فإن حرباً أهلية جديدة ستدق الأبواب، ولن يسلم من نارها أحد.
كل ذلك يوجب دق جرس الإنذار، لا بل ناقوس الخطر حيال لغز استهداف الجيش في هذا الوقت بالذات، خاصة أن المؤسسة العسكرية تشكل آخر ضمان للأمن الوطني يذكر اللبنانيين بوجود الدولة ككيان وآخر نقطة جمع بينهم في ظل هذا الجو الانقسامي الحاد.
لم تنتهِ فصول المؤامرة التي يواجهها لبنان، فالحرب “غير التقليدية” التي تشن عليه مازالت في بداياتها. وتفترض الواقعية أن يبقى الجيش على استعداد تام لمواجهة فصول جديدة للمؤامرة المتواصلة، خصوصاً خلال هذه الفترة حيث يبدو أن المخطط يقضي بإحداث فراغ في السلطة يؤدي إلى شلل عام في آلية صنع القرار الوطني، والدفع باتجاه حالة “اللادولة”، حيث لا مؤسسات تعمل ولا سلطة لأي قانون.