ما انفك المحللون والسياسيون اللبنانيون يمطروننا بتحليلات هنا ومناظرات هناك وشتائم هنا وشتائم هناك ووعيد هنا ووعيد هناك… كلها خزعبلات لا تمت إلى المقاربة العلمية بصلة؛ علماً أن اللبناني يتفاخر على محيطة بالعلم والثقافة. أما المضحك المبكي فهو ذاك الذي يظن أنه بمنأى من تداعيات أي صراع مذهبي في لبنان لأنه لا ينتمي إلى المذاهب المتصارعة، وكأني به يعيش في المريخ. أما التكاذب السياسي وادعاء العفة والوطنية الكيانية ونظافة النية والإيمان بدولة المؤسسات، فحدث ولا حرج.
ستكون مقاربتي علمية وعليه، وكالعادة، لن يستسيغ رأيي أحد، لا الأصدقاء ولا الحلفاء ولا الأقرباء ولا الرفاق. حتى زوجتي تعارض مقارباتي العلمية غير المتأثرة بجذوري العائلية أو الطائفية أو الجغرافية، حيث تراها غير عملية وغير واقعية، قائلة: “شو مفكر حالك كمال جنبلاط ولا تشي غيفارا ولا فخر الدين؟ ولا مفكر حالك بسويسرا؟ هيدا لبنان طول عمرو هيك، عمول مصلحتك”. ولكنني لن أتغير، ومقاربتي عن موضوع تدخل حزب الله في سوريا ستكون علمية وطويلة ولو كره الكارهون.
أول ما يلفتني في مقاربات “جهابذة” السياسة لدينا هو اعتبار الحلف الإيراني-السوري هو حلف شيعي كون النظام السوري علوي كما يقولون. أولاً، العلويون ليسوا شيعة. إن الشيعة الإثني عشرية التي تعرفون مختلفة اختلافاً تاماً عن العلوية، فالعلوية ليست فيها لا إثني عشرية ولا من يحزنون، ولا ينتظرون مهدياً ولا إماماً. أما أن تدعوا شيعية العلويين لأنهم إحدى المذاهب التي انشقت عن الشيعية الإثني عشرية، فالكلمة هنا “إنشقت”، كما انشق أفراد من الجيش السوري وسموا أنفسهم الجيش الحر؛ ما هو رأيكم بعلاقتهم بجيش النظام السوري؟ والغريب أنهم لا يدرون أن مارتن لوثر، مؤسس المذهب البروتيستانتي، كان تلميذ لاهوت كاثوليكي وكان “انشقاقه” ثورة على تعاليم الكنيسة أدى إلى حروب دموية بين البروتيستانت والكاثوليك في أوروبا على مدى قرون. فبتحليلاتكم، إذا حصل تحالف أميركي-برازيلي مثلاً، فهو تحالف للكنيسة الكاثوليكية لأن البروتيستانت “إنشقت” عن الكاثوليك؟
أما المقاربة المضحكة الثانية فهى اعتماد الاتهام بأن التحالف الإقليمي مع حزب الله هو تحالف يدعو إلى حكم الولي الفقيه. إن العلويين لا يؤمنون بالولي الفقيه ونصف الشيعة الإثني عشرية لا يتبعون نظرية الولي الفقيه وعلى رأسهم الراحل العلامة محمد حسين فضل الله الذي كان يقلد، ناهيكم عن حركة أمل والرئيس نبيه بري. أما الغريب بهذه النظرية فهم الروس، هل الروس شيعة إثني عشرية؟ أما الدولة الفارسية، فهذا هو الهراء بعينه. إن الفرس يمثلون ما يقارب الـ60% من إيران وعلى رأس الدولة هناك سيّد (الولي الفقيه)، أي من سلالة الرسول (صلعم)، يعني من أصول عربية. وللعلم، فإن الحكم عند الشيعة لآل البيت، فهل آل البيت فرس؟
أما لماذا حزب الله في سوريا، فالأمر بسيط جداً لدى البعض، وغامض جداً لدى من ولج الصالون السياسي من الطب والدين والهندسة وعالم الأعمال. أتذكرون مقولة أبو أياد الشهيرة: تحرير القدس يمر من جونية… أتذكرون؟ عندها قامت الدنيا ولم تقعد. ولكن، بعد بضع سنوات، ألم تلعب جونية وما تمثل من رمزية العمل السياسي الدور الرئيس في إسقاط منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان؟ كان تصريح أبو أياد آنذاك موقفاً استراتيجياً قيل بطريقة “عامية” وتم استغلاله إعلامياً بذكاء ودهاء ونجاح، نظراً للتعصب الأعمى لدى الفرد اللبناني الذي يدعي الثقافة و”الفهم بكل شيء”، ونظراً لغياب المفهوم العلمي للاستراتيجيا السياسية واعتمادهم على مقولات الزعماء التي تم استبدالها اليوم بفتاوى أصحاب الذقون. وهل تذكرون ما حصل للقوات اللبنانية والجنرال عون والكتائب اللبنانية؟ كلهم كان لهم حيثية ضمن مناطقهم وطوائفهم، ولكنهم سجنوا وطردوا ولوحقوا واغتيلوا وقمعوا ونكل بهم، لماذا؟ لأنهم رفضوا! كل ما رفضوه مرتبط بالدولة السورية فقط. ماذا برأيكم سيحصل لحزب الله إذا سقط النظام السوري وسلم الحزب سلاحه؟ قبل أن يسلم سلاحه نرى التهجمات عليه وتخوينه لبنانياً واعتبار شهداء المقاومة شهداءً للمشروع الإيراني كما تم اعتبار الآلاف من شهداء لبنان شهداءً للمشروع الإسرائيلي أو لمشروع الوطن الفلسطيني البديل. أما العداء العربي عامة والخليجي خاصة، فحدث ولا حرج. ناهيكم عن “العين الحمراء” الإسرائيلية-الأميركية-الأوروبية عليه. ذلك بالإضافة لشيوخ الأمس القريب “أصحاب النخوة السنية” الذين يهبون بين الفينة والأخرى يريدون “الدفاع” عن “أهل السنة والجماعة” من طغيان “الشيعة الرفضة الكفار”؛ يذكروني بالمجموعات المتطرفة “البيضاء” في الولايات المتحدة (KKK) أو النازيين الجدد في أوروبا.
إذن، فهم في سوريا من أجل بقائهم ودفاعاً عن مشروعهم الذي أعلنوه جهاراً، معتبرين أنه لا ازدهار ولا سلام في المنطقة عموماً وفي لبنان خصوصاً، بوجود إسرائيل العنصرية في الشرق الأوسط. إن لبنان بحد ذاته يمثل صفعة للصهيونية العرقية كما يمثل “رفسة” للعقول المتخمة بالنفط، بتعددية ثقافته وانفتاحه الديني وديمقراطية نظامه. وحزب الله في سوريا للدفاع عن مشروعه المعلن، علماً أنه حتى الآن لم يكفر أي من العائلات الروحية اللبنانية ولم يطالب بجمهورية أو إمارة إسلامية ولم يشارك في السلطة التنفيذية عندما كان ظهره محمياً. وقالها بالفم الملآن: لا تسليم سلاح حتى تحرير فلسطين، أو حتى إعادة الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم وبيوتهم؛ هل نسيتم الهدية الإسرائيلية للبنان في العام 1948 التي تضخمت الآن ووصلت إلى ما يتخطى النصف مليون؟ أم ترضون بالتوطين؟ أما أعداؤه الذي يعتبرهم متربصين به فهم ليسوا نظاماً واحداً كما كان الحال مع القوات والكتائب والجنرال، بل هم الكون كله. أحزاب قوى الرابع عشر من آذار اللبنانية والدول العربية والتنظيمات الإسلامية المتطرفة وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية والمنظمة الصهيونية العالمية، إلخ. علماً أن ملاحقة هؤلاء لأعدائهم تتخطى بأشواط كل التجاوزات والقمع السوري. أنظروا ما فعل الفرنسيون في الجزائر وما فعل البريطانيون في الهند وما فعل ويفعل الإسرائيليون بالفلسطينيين وقبل ذلك كيف اغتالوا السيد عباس الموسوي وقبلها كيف انتقموا لعملية ميونيخ، وما فعل الأميركيون في العراق وأفغانستان وقبلهما في كوريا وفييتنام، وقبلهما في اليابان عبر قنبلتي هيروشيما ونغازاكي انتقاماً لهجوم “بيرل هاربر”.
أما أنتم أيها “السياديون”، ما شأنكم في سوريا؟ فإنكم تعلنون “سياديتكم” معتبرين أن لبنان هو “وطن نهائي” وأن لا ناقة لكم ولا جمل بأي “مجموعة سنية” لا تحمل الجنسية اللبنانية، وأنكم لا تعترفون يأي مشروع إقليمي أو أجندة تحريرية. لماذا هذا الحماس والغضب وتبرير سلاح المتطرفين ودعم تهديدات “غير اللبنانيين” لحزب لبناني وتبني طروحات مذهبية بغيضة والدفاع عن أنظمة غير لبنانية وتبرير إجراءاتهم التعسفية بحق اللبنانيين؟ لماذا هذه الغيرة على أحاسيس الخليج وأحقية تدخله في الشؤون السورية، ولا نتلمس هذا الدعم لحزب لبناني يتدخل في سوريا؟ أمن أجل دولار النفط؟ أم لأسباب مذهبية؟ عندما قامت السعودية بالتنكيل بالسعوديين الحوثيين هل واجهت مصالحها أي اهتزاز في لبنان أو تدخل سياسي من قبل أي طرف لبناني؟ عندما دخلت قوات درع الجزيرة للدفاع عن “النظام البحريني” بوجه شعبه، هل قام أحد في لبنان بتهديد المصالح الخليجية؟ أم يحق لهم قتل الشعوب دفاعاً عن مصالحهم الاستراتيجية ولا يحق لمن حرر أرضنا من المحتل أن يتدخل بطلب من الدولة الشرعية السورية للدفاع عن مصالحه الاستراتيجية؟ ما شأن الخليج بسوريا؟ ما شأن نجد والحجاز ببلاد الشام؟ وأنتم أيها “الفنيقيون”، ألا تعلمون أن سوريا هي جزء من “فينيقيا” وأن الجزيرة العربية هي بالنسبة لفينيقيا كوكب آخر؟ أما السياحة، فنعم، نريد السياحة؛ ولكن لا، لا نريد أن نكون “جمهورية موز” لصحراء العرب… فلبنان بلد الشهادة والحضارة رغم أنوفكم.
كفى رياءً وبث السموم المذهبية لشد العصب الجماهيري، وكفى انحناءً من أجل حفنة من الدولارات، وكفوا عن الادعاء بالتمسك بالمؤسسات حين لا أسمع تشكيكاً بمؤسسة الجيش اللبناني إلا من طرفكم. وتريدون نشر الجيش على الحدود السورية وكلما أطلق رصاصة اعتبرتموها موجهة ضد “أهل السنة والجماعة”. وكلما استشهد جندياً وضابطاً في الجيش تقومون بقمع التحقيق واتهام الجيش بالكيل بمكيالين. أما قمة التبعية، فهي تلك الرموز “السيادية” المسيحية التي تترأس مهرجاناً يهاجم الجيش اللبناني ويحذره من التمادي، مدافعين عن “كرامة العمامة” بوجه الجيش اللبناني الوطني. لا شأن لكم بالسيادة ولا شأن لكم بالوطنية ولا باللبنانية، شأنكم محصور بإرادة “دشاديش” النفط وجماهيرية “فتاوى” علماء النفط وعصابات “لفات وذقون” مال النفط.
أما ادعاؤكم أن حزب الله هو حزب مذهبي يقتل “أهل السنة والجماعة”، فهو التضليل بامتياز. سمعنا تصاريح وبيانات لهؤلاء “المجاهدين” الذين ينصرون “النصرة” ومن لف لفيفها، أن تدريباتهم كانت عند المقاومة في حزب الله. كيف تتهمونهم بالمذهبية ومعظم الحركات الإسلامية قد تم تدريبها من قبل حزب الله؟ هل نسيتم “حماس”؟ لأنهم ليسوا مذهبيين، ولأن عقيدتهم إسلامية جامعة، دعموا هؤلاء التيارات ودربوها معتقدين أن الجهاد الإسلامي الجامع هو وحده الكفيل بتحرير فلسطين، وهذا خطؤهم المميت. لم يعلموا أنهم ليسوا مسلمين، بل مذهبيين. وأنهم لا يهدفون إلى تحرير فلسطين، بل إلى الإمساك بالسلطة… ظنوهم كأنفسهم أنهم مقاومين لن يطالبوا بالسلطة حتى تحرير الأرض المغتصبة… ظنوهم بمعسكرهم المقاوم ضد اتفاقيات الاستسلام. وهذا انتقادي لحزب الله وإيران، رهانكم كان خاطئاً، ولا يوجد مشروع ديني يريد تحرير فلسطين إلا أنتم؛ فلا تراهنوا على من خبرناهم وقلنا لكم ولم تصدقونا وظننتم أن حكمنا عليهم تحاملاً لأننا علمانيون. لا أمل إلا بالعدو الحقيقي لإسرائيل وهو اللبناني الأصيل والعروبي الإنساني الحر. فأرجوا أن تكون هذه الأحقاد والسموم التي ينفثونها يومياً في بلادنا قد لعبت دور الصدمة الإيجابية لتحريك بوصلة المقاومة وإيران باتجاه الحليف الحقيقي لمشروعها الإقليمي.
أما الادعاء بأن لبنان مستهدف من جراء تدخل حزب الله في سوريا، فهذا المضحك المبكي بامتياز. نعم، إن لبنان مستهدف وسيظل مستهدفاً، منذ الاستقلال وقبله وحتى يومنا هذا. وسيبقى لبنان مستهدفاً إذا بقي بلد الرسالة… لأن الرسالة بحد ذاتها تمثل تحدياً لهذا الشرق المظلم المتقوقع على نفسه بأعرابه وأتراكه وصهاينته ومتطرفيه.
**