واندلع التقاتل في سوريا واندلعت معها التحليلات و”العنتريات” والشماتة و”التبرعات” والوعيد والتهديد و”الاستنكارات” وادعاء “النأي بالنفس”. كلهم تدخلوا، وكلهم “فشوا خلقهم”، وكلهم اعتبروها معبراً لطموحاتهم أو خطراً على وجودهم؛ ولكن الوحيد الذي صرّح بما يفعل هو حزب الله. أعلن الحزب تدخله بمعارك القصير في سوريا من منطلق استراتيجي ووطني، فصمت البعض وتوعّد البعض وابتسم البعض الآخر شماتة بجثث مقاتلي الحزب الذين تم دفنهم في لبنان. ولكننا لم نرى تحركاً جماهيرياً على الأرض، إلا بنادق وقذائف “المجاهدين” في باب التبانة.
وانتصر حزب الله في القصير، هنا، قامت الدنيا ولم تقعد. اجتمع مجلس التعاون الخليجي وأدان التدخل وأعلن حزب الله “حزباً إرهابياً”، واجتمع الاتحاد الأوروبي وأعلن حزب الله “حزباً إرهابياً”، وقام شيوخ الدين السنة وأعلنوا حزب الله “حزباً رفضياً كافراً”، وقامت قوى الرابع عشر من آذار وأعلنت حزب الله “حزباً إمبريالياً فارسياً يقمع المستضعفين والعرب”. أما تشريع إيصال السلاح إلى المقاتلين في سوريا من قبل الاتحاد الأوروبي فلم يعتبر تدخلاً بالشؤون السورية، وإرسال الأموال و”المجاهدين” العرب والمسلمين من أوروبا الوسطى والغربية وآسيا الوسطى ودول مجلس التعاون وشمال لبنان فلم يعتبر تدخلاً، وسرقة مقعد الحكومة الشرعية السورية في الجامعة العربية وفق منظمة الأمم المتحدة فلم يعتبر تدخلاً
أما ما لفتتني فهي التحليلات عن ضعف النظام السوري بوجه المعارضة المسلحة، معتبرين أن استعانته بمقاتلي حزب الله هو خير دليل على هذا الضعف؛ وفي المقابل قام نفس المحللين بالادعاء أن حزب الله قد قام بالمساهمة في “قتل الشعب السوري الآمن”؛ ذلك بالإضافة إلى تصريحات المعارضة السورية التي ربطت سقوط القصير باستخدام النظام السوري للقوات الجوية ومقاتلي حزب الله. هنا، وبكل بساطة، أسأل: إذا كان هناك من “شعب سوري آمن”، لماذا يحتاج النظام إلى القوات الجوية وحزب الله لقمعه؟ إذا كان هناك من “شعب سوري آمن”، لماذا تصرح المعارضة أنه كان باستطاعتها “التغلب” على الجيش السوري لولا قواه الجوية وتدخل حزب الله، أليسوا هم “شعب آمن”؟ إذا كانت المعارضة السورية “شعب سوري آمن”، لماذا ترسل صواريخها إلينا بين الحين والآخر؟ إذا كان هناك من “شعب سوري آمن”، من الذي يهدد حزب الله بالويل والثبور في معاقله اللبنانية؟ إذا كان هناك من “شعب سوري آمن”، من الذي يقاتل بوجه الجيش السوري ويرينا من خلال إعلامه هو، آلياته وسلاحه وترسانته؟ إذا كان هناك من “شعب سوري آمن”، من الذي يقوم بالتهام قلوب من قتلهم؟ إذا كان هناك من “شعب سوري آمن”، من يكبّر ويقطع الرؤوس ويطلق النار من مسدسه على مجموعة من الأسرى وهم راكعون وأيديهم مربوطة؟ وأتتنا التحفة التحليلية القائلة بأن تدخل حزب الله في سوريا سيكون له انعكاسات “مميتة” في لبنان. أما قمة هذا التحليل فقد أتانا من الدعوة إلى التجمع في وسط بيروت بالإضافة إلى التظاهر في محيط السفارة الإيرانية في بئر حسن.
أما عن التجمع “الهزيل” في وسط بيروت، فقد أتحفنا قادته بتشبيه السيد حسن نصرالله برئيس حكومة إسرائيل أولمرت، حيث اعتبروا أن قتال العدو الصهيوني في لبنان هو مشابه لقتال حزب الله في سوريا. أما ما غاب عن قادة هذا اللقاء بتشبيهاتهم أن حزب الله انتصر في القصير وحقق أهداف قتاله، أما أولمرت، فقد انهزم في لبنان ولم يحقق أهدافه وكانت حرب تموز 2006 مقبرة لمسيرته السياسية. كما غاب عن تشبيهاتهم أن حزب الله هو ابن هذه الأرض وليس مجتمعاً مكوناً من تجميع عنصري من أصقاع الأرض. ونسوا أن حزب الله هو نتاج عقود من إهمالكم واستخفافكم باحتلال الأرض اللبنانية وتشريد أهلها والتنكيل بإنسانها، بينما أولمرت هو نتاج دولة غاصبة انتهكت أرضنا وأعراضنا وشردت إنساننا وقتلت أطفالنا. ولكن لم يغب عن بالنا نحن في هذا التشبيه ما “طنّش” هؤلاء القادة عن ذكره، أن حزب الله قاتل في القصير دعماً لحلف استراتيجي مع النظام السوري، فمع من هو هذا الحلف الاستراتيجي في لبنان الذي جعل أولمرت وقبله مناحييم بيغن وآرييل شارون يقاتلون في لبنان؟ إنتبهوا أيها القادة “الجهابذة” من استخدام مقاربة المقارنة، فهي بلا شك ليست لصالحكم.
أما عن التظاهر أمام السفارة الإيرانية في بئر حسن، فقد واجهتهم مجموعات شبابية للتعبير عن رفضها لهذه التظاهرة. هؤلاء المجموعات الشبابية أيضاً لبنانية و”شيعية” قررت أن تعبر عن رفضها لتظاهرة مجموعة لبنانية و”شيعية” أخرى. وكالعادة في لبنان، وبغياب المؤسسات الأمنية، دارت اشتباكات بالأيدي بين المجموعتين؛ لا من خلفية مذهبية (والحمد لله)، بل من خلفية سياسية. وحسب التقارير الصحفية، فإن الذي أطلق النار هو الجيش اللبناني. أما إعلام الرابع عشر من آذار فقد اعتبر أن اللباس الموحد لسكان المنطقة هو دليل “مؤامرة” وتم بث صور للاشتباك شاهدنا فيها أبناء المنطقة وهم بقمصان سود يحملون العصي وينهالون ضرباً على المجموعة الآتية بالحافلات. إذن، فإن أبناء المنطقة من مناصري حزب الله كانت لهم الغلبة في الاشتباك حيث قاموا بدحر الآتين في الحافلات وجعلهم يتقهقرون إلى ما بعد السفارة اليمنية بعيداً عن السفارة الإيرانية بحوالي الخمسمائة متر (حسب الصور التي يثتها وسائل الإعلام). هنا تدخل الجيش لفك الاشتباك حيث اضطر إلى إطلاق النار بغزارة. وسقط هشام السلمان مضرجاً بدمائه وفارق الحياة في المستشفي متأثراً بجراحة؛ ضحية بريئة لتحرك لم نفهم غايته. أما المثير للجدل فهو الرصاصة القاتلة التي، وحسب التقرير الرسمي، دخلت من ظهره من فوق واخترقت جسده نزولاً إلى معدته ومن “مسدس حربي”. من يعرف المنطقة يعلم أن متظاهري حزب الله كانوا من الجهة السفلى للطريق فمن المستحيل أن تأتي الرصاصة من فوق، وإذا كانت التقارير الرسمية دقيقة، فمن المستحيل إطلاق النار “بمسدس حربي” من أحد أسطح المباني المجاورة (وهي مباني عالية لا تقل عن سبعة طوابق)، إذ يحتاج مطلق الرصاص من المباني إلى استخدام بندقية. كما يجب أن لا ننسى أن الصور والمعلومات أكدت أن متظاهري حزب الله كانت لهم الغلبة واتهموهم بالتحضير سلفاً لمواجهة التظاهرة من خلال امتلاكهم العصي التي استخدموها للتغلب على الآتين بالحافلات؛ فهل الغالب يحتاج إلى استخدام السلاح الحربي؟ وهل للعصي الخشبية القدرة على إطلاق الرصاص؟ أم هي عصي تابعة لجايمس بوند؟
أهذه هي الانعكاسات “المميتة” التي حذرتمونا منها؟ أليست هذه انعكاسات من صنيعتكم؟ بماذا تهولون، ولماذا تهولون؟ ما شأنكم والقصير؟ أعلن حزب الله شأنه من القصير من منطلق استراتيجي بامتياز، لماذا لا تعلنوا أنتم شأنكم من القصير بصراحة؟ إن كان من أجل لبنان، فلا شأن لكم بالقصير، وإن كان لدواعٍ استراتيجية، أعلنوها كي نفهم استراتيجيتكم. أما المرحوم هشام، فهو الضحية الأولى لأهدافكم المستترة… معركة داخلية لبنانية لتخفيف الضغط عن المعارضة السورية خدمة لأسيادكم من شيوخ النفط الذين بدؤوا منذ مدة بمحاربة المواقف السياسية وحرية رأي اللبنانيين بلقمة عيشهم.
وفي الختام، لا أستطيع أن أتوجه إلى ضمائركم، فلست أملك ما يستطيع أن يتغلب على مفاعيل الأموال التي تحجبها عن أفعالكم… لا أملك إلى كلمة حرة لأقول، رحم الله هشام السلمان وألهم أهله الصبر والسلوان.
**