وانطلقت السينفونية هذه المرة على الملأ من مصدرها، واشنطن. إن الولايات المتحدة الأميركية “تطالب” مقاتلي حزب الله بالانسحاب من سوريا، ولكنها “تشد على يد” الاتحاد الأوروبي لقراره “الجريء” بفتح الباب أمام تسليح “المعارضة” السورية، وترسل عضو مجلس شيوخها جون ماكين “للتسلل” إلى الأراضي السورية بطريقة غير شرعية والتمتع بضيافة العصابات الإجرامية التي خطفت المدنيين اللبنانيين، كما تشد أزر “القرى” العربية الصحراوية في إرسالها “المجاهدين” والأموال والسلاح للدفاع عن “الإسلام الصحيح” بوجه “الرفضة والنصيريين والصليبيين وعابدي العجل”.
وبصفتي الإنسانية، وحيث أن الولايات المتحدة تدعي أنها “سيدة العالم الحر”، يحق لي أن أطالب هذه “الأمة الحرة” بفواتير الإنسانية بدءً من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي مروراً بمليوني قتيل في كوريا، ومئات الآلاف من الضحايا في فييتنام من جراء استخدام أسلحة محرمة دولياً، وتدمير العراق، ودعم الثوار الأفغان ثم محاربتهم واحتلالهم، وتنصيب نورييغا ثم خلعه واحتلال بنما، وقتل سلفادور الليندي ودعم بينوشيه في ذبحه ودفنه عشرات الآلاف من التشيليين، ودعم رافاييل تروخيليو أسوأ ديكتاتور عرفته الدومينيكان، وتسليح عصابات “الكونترا” في نيكاراغوا، والتدخل في كوبا من خلال تسليح عصابات النظام الساقط وإدخالهم بمغامرة “خليج الخنازير”، وغيرها من التدخلات والاغتيالات والسياسات الإجرامية التي لا تعد ولا تحصى. وختامها مسك في دعم إسرائيل بأسلحة دمار شامل وأسلحة متطورة تستخدمها لقتل النساء والأطفال والعجز واحتلال الأرض وتشريد إنسانها. أما بصفتي اللبنانية، كيف يحق لسفيرتكم التدخل بالشؤون اللبنانية وإعطاء التعليمات بإجراء الانتخابات أو عدمه، وتقديم اقتراحات عن كيفية تشكيل الحكومة، واقتراح أسماء رؤساء الجمهورية؟
أما عن وعيد النصرة فأتوجه بنصيحة لهؤلاء “الأشاوس”: هذا لبنان وليس الخليج. هذا اللبنان الذي عرف العمليات الاستشهادية التي نفذها علمانيون أمثال سناء محيدلي ولولا عبود، وشبه استشهاديين أمثال سهى بشارة، هؤلاء فقط النسوة، فكيف بكم بالرجال؟ وهؤلاء لم “يزنّروا” أنفسهم إرضاءً لإله يعبدوه ولا دفاعاً عن دينٍ يعتنقوه ولا طمعاً بفردوسٍ يتوقون إليه، بل دفاعاً عن الأرض والشعب والوطن. هذا اللبنان الذي من أرضه عرف العالم عمليات المقاومة الفلسطينية. أتذكرون عملية ميونيخ؟ أتذكرون ليلى خالد؟ كلهم قبل لبنان لم ينطلقوا. إنه هذا اللبنان الصغير الذي انهالت عليه خناجر العالم لتقطيع أوصاله، فصمد وانتصر وطعن خنجره في صدر العالم فأدماه. والآن عاد إلى سلامه و”هضامته” وخفّة دمه، فلا تقوموا بإيقاظ شيطانه بوجهكم، عندها سيؤذيكم ويدميكم وينهيكم… لا تنضموا إلى عديد سكان مقابر غزاته.
أما تهديد عبد الحليم خدام، فقد رسم على وجهي ابتسامة عندما قال: سوريا بعد الأسد ستدخل إلى لبنان وتقضي على “حزب الله”. يا عزيزي يا عبد، كأن انغماسك في الفساد عندما توليت منصب “مختار لبنان” قد أنساك نوعية هذا الشعب. إن لحزب الله احتضان شعبي قد قل نظيره وهو عابر للطوائف والمناطق، ناهيك عن سنين خبرته في القتال والتحضير، والحزب العربي الوحيد الذي وقف بوجه العدو الصهيوني وانتصر بتحرير أرضه بالقوة، بالإضافة لدعم إقليمي لا حدود له وعدم استعداد معظم اللبنانيين في الثقة بأي جيش يأتي من الخارج “لتحريره”. أما الجبهة اللبنانية في السبعينيات فلم تكن تشهد هذا الدعم الإقليمي، وبندقيتها (المسيحية) لم تكن بعد موحدة، ولم يكن لها هذا الباع في القتال، وأكثر من نصف اللبنانيين كانوا ضدها، وكان لكم حلفاء لبنانيون مدججون بالسلاح ومنظمة التحرير الفلسطينية (أي أمة الله واسم الله كلها) كانت تدعمكم، ولم تستطيعوا أن تتقدموا قيد أنملة في الأشرفية. أما زحلة، فحدث ولا حرج؛ هذا، وقد كنتم في أوج وحدتكم وعظمتكم. وتريد الآن “القضاء” على حزب الله؟ لا تكررها يا عبد كي لا تتحول ابتسامتي إلى قهقهة قد تجرح شعورك… اللّهم لا شماتة.
أما إخواننا العرب فيشترطون، تريدون العمل لديهم، هاكم شروطهم: لا حكومة إلا برئاسة تيار المستقبل؛ لا حكومة فيها حزب “الرفضة”؛ ممنوع علينا التدخل في الشؤون السورية فهي ملعبهم، رغم أنها في فنائنا؛ ممنوع المقاومة لأنها تتعارض مع “موقفهم الاستراتيجي” في التنازل عن الأرض العربية مقابل السلام؛ ممنوع التكلم بحق العودة للشعب الفلسطيني لأن رفض التوطين هو مؤامرة بوجه تكاثر “أهل السنة والجماعة” في لبنان؛ ممنوع التطرق إلى معارضة البحرين السلمية لأنها تعتبر رسالة “رفضية فارسية”؛ ممنوع مناقشة المقارنة بين هذا النظام أو ذاك بما يتعلق بحرية المعتقد والتعبير (وحتى اللباس) وديمقراطية أنظمة الخليج؛ ممنوع انتقاد الثورات العربية واتهامها بالتكفيرية لأنها تعتبر تحدي لمشاعر المسلمين؛ ممنوع التكهن بمصادر التمويل والأسلحة في طرابلس وبيروت والضنية وسوريا… ممنوع وممنوع وممنوع وإلاّ، سيقطعون عيش أكثر من نصف مليون لبناني يعملون بالخليج. أولاً، لقد تقلص عدد اللبنانيين في الخليج إلى النصف من جراء إجراءات دول الخليج الكيدية. ثانياً، أتت أوامر معظم دول الخليج إلى مواطنيها بعدم السفر إلى لبنان وأعطتهم بدائل ببرامج ما يسمى “سياحة الداخل”. ثالثاً، هناك حوالي أربعة ملايين لبناني يعيشون في لبنان ويستفيدون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من العلاقات المميزة بين الدولة السورية ولبنان من خلال الحدود البرية… يعني إيّاك ومصالح لبنانيي الخليج، ولبنانيي لبنان يلعن أبوهم؟ علماً أنه عندما تقوم سوريا بإغلاق المعابر الشرعية الحدودية، يقوم أصدقاء سوريا من المسؤولين اللبنانيين بالتوسط لدى الدولة السورية حيث تقوم الأخيرة بفتح المعابر. أما أصدقاء دول الخليج، فلا صوت لهم عند أصدقائهم. بل بالعكس، يقومون بتبرير مواقف الدول العربية بقطع أرزاق اللبنانيين، ويقومون باستثمارها محلياً في صراعهم السياسي بقولهم: أيها اللبنانيون، لا عمل لكم في الدول العربية ولا سياحة عندكم من الدول العربية، إلاّ إذا استلمنا نحن السلطة… شتان بين هؤلاء وأولئك؛ أين الثرى من الثريا!
وفي الختام، سيظل لبنان منبر الكلمة الحرة، والرأي الحر، والتعددية الفكرية والدينية، والكرامة الوطنية، والمقاومة بوجه كل معتدي. سيظل شوكة في حلق كل مستسلم وطاغية وتكفيري ونفطي وإلغائي وعنصري… وسيبقى كما كان، واحة حرية ورسالة إنسانية وشعلة حق تستنير بها شعوب هذا الشرق.
@