الشرق الأوسط والعالم يمران بحالة بدء إعادة رسم خرائط، وهناك تبدلات في الحكم المحلي وتعديلات، وإن بطيئة، في السلطة العالمية.
فقد خلط الربيع العربي كل الأوراق بعُنف في المنطقة، كما في العالم. وكما أنه جاء، في بعض جوانبه، نتيجة لتغيّر الاستراتيجيات الدولية إزاء أنظمة المنطقة غداة أحداث11 أيلول 2001، كذلك هو أثّر على العلاقات الدولية.
فالتناغم السابق للنظام العالمي في مجموعة الثماني ومجموعة العشرين ومجلس الأمن، أسفر مع الربيع العربي عن تباينات في المواقف، ترجمت نفسها في نهاية المطاف في شلل مجلس الأمن إزاء الأزمة السورية، للمرة الأولى منذ الحرب الباردة.
فانقسم العالم نهائياً إلى معسكرين، في ما يشبه الحرب الباردة الجديدة، وهذا سيجعل معسكر الممانعة والمقاومة، ينتصر في الشرق الأوسط، خاصة بدعم من روسيا، التي لا تريد منافسة الولايات المتحدة الأميركية وحدها، في حين أن الصين لا تزال تمارس سياسة الصبر وعدم التدخل في الشؤون الخارجية لأي بلد من بلدان العالم. وبالتالي فإن استراتيجية الأمن القومي الروسية حتى عام 2020، التي صدرت عام 2009 وحلَّت مكان “مفهوم الأمن القومي الروسي” للعام 1997 الذي عُدِّل في العام 2000، إلى تحويل “روسيا المُنبعثة” إلى دولة كبرى مجدداً وإلى أن تكون إحدى القوى الخمس الأكبر اقتصاداً في العالم، وهي تحدد الأهداف والتهديدات والمهام والإجراءات، لتحقيق هذا الهدف على المدى القصير (2012) والمتوسط (2015) والطويل (2020)، لكنها تربط هذا الهدف ومعه مبدأ الأمن القومي، ربطاً مُحكماً بالنمو الاقتصادي الثابت، مُشدِّدة على رفع مستويات معيشة المواطنين الروس، وعلى أولوية الإبداع والابتكار التكنولوجيين، و”العلم” و”الثقافة” و”الصحة العامة”، وحتى على “الروحانية”، في إطار “الذاكرة التاريخية الروسية”.
مقومات هذه الاستراتيجية لإعادة بناء الدولة الكبرى، هي: التركيز الشديد على المصالح القومية والاقتصاد والتطوير التكنولوجي – العلمي، والأهم، الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي عبر ما يصفه البند الثالث من الاستراتيجية بـ “المشاركة الفعالة في تقسيم العمل الدولي”، كما أن البند السابع في الاستراتيجية، يدعو إلى سياسة خارجية براغماتية ومنفتحة، عبر العمل على بناء شراكات أو تحالفات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أو حلف الأطلسي – أوروبا، والتركيز على الشرعية الدولية ودور الأمم المتحدة.
العلاقات الروسية – الأميركية
وطبّقت روسيا هذه الاستراتيجية بنجاح في عهد بوتين. فبعد أن أعاد هذا الأخير بناء الدولة الروسية إنطلق في سياسة خارجية نشطة، تستند في آن إلى التعاون والتنافس مع أميركا، حيث ركّز بوتين على الجوانب الإقليمية والتجمُّـعات الدولية: البريكس، منظمة شنغهاي، وحتى منظمة التعاون الإسلامي، وعلى فضاء الاتحاد السوفييتي. فمارس الدبلوماسية (في روسيا البيضاء وكازاخستان وتركمنستان)، وأثار المتاعب (في أوكرانيا ودول البلطيق) أو استخدم القوّة المُباشرة (في جورجيا).
أوباما فهِـم الرسالة من وراء هذا النشاط البوتيني المستجَـد، فوُلِـدت سياسة إعادة التنظيم الأميركية التي استندت إلى احترام الدور الروسي في العالم وتقديم تنازلات في مجال الصواريخ الاعتراضية في أوروبا الشرقية وتقليص الأسلحة الاستراتيجية والاعتراف، نسبياً، بوضعية الاتحاد السوفييتي السابق، ودمج روسيا في النظام العالمي ومنحها دوراً في سلام الشرق الأوسط.
بيد أن استراتيجية إعادة التنظيم لم تكن كاملة، بسبب الشكوك الروسية بالسي. آي إي ودورها المُحتمَـل في التحريض على ما يسمى “ثورة الثلج” في روسيا.. كما أن بوتين أدرك أنه لن يستطيع مُنفرداً تعديل موازين القوى مع أميركا، وهذا أعاد موسكو إلى الحيرة القديمة بين التيارات الثلاث، الأطلسية والأوراسية والقومية – الشيوعية.
التوجهات الروسية قبل الربيع العربي وبعده
إحتل الشرق الأوسط اهتماماً كبيراً في استراتيجية الأمن القومي الروسي، قبل الربيع العربي، بسبب قلق روسيا من خاصرتها الرخوة في شمال القوقاز وآسيا الوسطى. وتجربة الشيشان (100 ألف قتيل)، لوّنت كل مقاربة بوتين للشرق الأوسط الإسلامي، خاصة في ضوء الدور السعودي في الثورة الشيشانية، فكان ثمة 3 أولويات في هذه الاستراتيجية: إيران وتركيا والخليج (إيران والعراق أساساً) والصراع العربي الإسرائيلي. وترافق رسم هذه الأولويات الروسية الجديدة، مع انفتاحٍ على الجميع ومحاولة إقامة توازُن بين كل القِوى الإقليمية المتنافسة في الشرق الأوسط.
الصدام الوحيد بين روسيا والغرب في خِضَم الربيع العربي، حدث فقط في سوريا. وذلك لأن موسكو تعتقد حقاً أن واشنطن وحلفاءَها الغربيين أساءوا فهم ما يجري في سوريا. فبدلاً من احتمال أن يؤدّي سقوط نظام الأسد إلى قيام نظام ديمقراطي في سوريا، كما يعتقد الغرب، فإن روسيا تخشى أنه سيُـسفر عن بروز نظام سُـنِّي راديكالي، لن يكون فقط معادياً للغرب، بل أيضاً لروسيا. وهي تذكّر بما حدث غَداة التدخلات التي قادتها أميركا في أفغانستان والعراق وليبيا، وأدّت إلى بروز الأصوليات والفوضى.
ولا تعتقد روسيا أن إدارة أوباما، ولا حتى أي إدارة جمهورية قد تصل إلى البيت الأبيض، مهتمّة حقاً بإسقاط النظام في سوريا.
وترى موسكو أن الحافز الأساسي لإسقاط النظام السوري، يأتي من السعودية وقطر. وكانت أحداث الربيع العربي قد أشعلت مجدّداً مخاوف موسكو من الرياض، تلك المخاوف التي كانت سائِدة خلال حِقبة التسعينيات خلال حروب الشيشان، والتي لم تهدأ إلا بعد بدء التقارب السعودي – الروسي في عام 2003، ثم بعد أن أعلنت السعودية أنها تدعم الحلّ الروسي في الشيشان. لكن قبل هذا التاريخ، كانت موسكو تعتقد أن مملكة الوهابيين تُحاول نشر الإسلام السُنّي الراديكالي في الشيشان وشمال القوقاز وفي مناطق أخرى في الاتحاد السوفييتي السابق. والآن، ترى موسكو أن الرياض تحاول استخدام الربيع العربي، لتحقيق مصالحها الجيو- سياسية الخاصة، من خلال دعم السلفيين في مصر وليبيا وسوريا، وقمع الشيعة في البحرين، وإحلال نظام سنّي موالٍ لها في سوريا، مكان نظام موالٍ لإيران. كما ليس واضحاً لروسيا، حدود الطموحات السعودية، وهي تعتقد أن الولايات المتحدة ليست متنبِّهة لهذا الخطر.
روسيا قلِقة بالفعل من صعود الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، لكن ليس كثيراً. فهي قادرة على استيعابه في الداخل الروسي والإفادة من التناقضات المُحتملة في المنطقة.
كما أنه ثمّة تباين وحيرة في المواقف الروسية حيال الربيع العربي، ما أثّر جزئياً على العلاقات مع أميركا ودفع الجمهوريين الأميركيين إلى وصف موسكو بـ “الخصم الجيو- سياسي الأول” في العالم.
الربيع سيدفع القيادة الروسية إلى إعادة نظر شاملة في سياستها الشرق أوسطية، التي كانت تتَّـبعها طيلة عقد: فالأزمة السورية نسفت التوازنات الروسية بين تركيا وإيران، وبين إيران والسعودية.
على أي حال، الكثير في التوجهات الروسية الجديدة، سيعتمد على السياسة الأميركية وعلى محصلات الصِّراع بين التيارات الثلاث في روسيا، وأيضاً على حصيلة التمخضات الراهنة في الشرق الأوسط الإسلامي.
الدور الروسي الجديد
المتتبع للسياسة الروسية الخارجية، يجد أن موسكو تعمل على إستعادة دورها في السياسة الدولية، عبر البوابة الشرق أوسطية، بإندفاعة قوية، تعيد للذاكرة دور الإتحاد السوفييتي، إبان الحرب الباردة التي كانت مشتعلة بين الغرب والكتلة الشرقية، مما يعيد كامل المنطقة الى سياسة الإستقطابات التي كانت سائدة حينها، لكن مع فارق جوهري، هو إختلاف حركة شعوب المنطقة، وتغير ميولها وإهتماماتها، بفعل ما يسمى “الثورات العربية”، وهي ثورات لم تصل الى غايتها وأهدافها، إنما تمّ وأدها وركوب موجتها، وأهداف الجماهير مازالت كما هي، فكانت مرحلة مليئة بالتناقضات والجدل.
رافق التغيير في نهج السياسة الروسية الخارجية الجديدة، خطوات عملية على الأرض، وتصعيد إعلامي غير مسبوق – في العهد الروسي الجديد – يضع تحالفاته الجديدة القديمة، على قدم وساق مع أمنها القومي؛ فحين يحذر ديمتري روجوزين السفير الروسي لدى حلف شمال الاطلسي من أن روسيا ستعتبر أي تدخل عسكري مرتبط بالبرنامج النووي الايراني تهديداً لأمنها. وحين ترسل موسكو سفينة محملة بالأسلحة والذخائر الى دمشق، في ظل تزايد الحماسة الغربية للإطاحة بالنظام السوري، ودعمه لتشكيلات المعارضة المسلحة المتمثل بالجيش السوري الحر، فهي دلالة قوية على رمي روسيا كل ثقلها، بما فيه العسكري، دعما لإيران وسوريا في مواجهة الدول الغربية، معلنة بذلك أنها لن تسمح بتغيير النظامين في إيران وسوريا.
لا أحد يختلف على صعوبة الملف السوري، بسبب التعقيدات المرتبطة بالموقع الجيوسياسي لسوريا، علاوة على كونها الحلقة الأكثر أهمية في ما يطلق عليه حلف الممانعة الذي يضم إيران وسوريا و”حزب الله”، مما يعني أن العمل على تغيير النظام في سوريا، بالأدوات الحالية، سينعكس سلباً على ذلك الحلف، بل سيكون الخطوة الأهم على طريق محاصرة وضرب “حزب الله” في لبنان، ليتسنى بعدها التفرغ لإيران. ولا يخفى على المحللين الإستراتيجيين صعوبة، إن لم يكن إستحالة، ضرب إيران، قبل التخلص من النظام في سوريا، وتصفية أو إضعاف “حزب الله”، فالمخططون الغربيون والإسرائيليون يدركون أن تحالفات ايران مع سوريا و”حزب الله”، توفر مظلة قوية تحمي الأطراف الثلاثة معاً من إي إستقواء خارجي، مما يعقد التعامل مع تلك الملفات الثلاثة.
الإندفاعة الروسية الجديدة، بهذه القوة، نحو إيران وسوريا، جاءت أيضا بعد إعلان تركيا موافقتها على نشر صواريخ الدرع الصاروخية لحلف الأطلسي، ويكون الغرب بذلك قد أحاط روسيا من كل الجهات بذلك الدرع، مما يشكل خطراً كبيراً على سياسة الدفاع الروسية، مما يحتم على موسكو البحث عن منصات خارج الأراضي الروسية، ليوسع من إمكانية الفكاك من هذا الحصار الصاروخي. ولا بديل أمامه بعد إنهيار المنظومة الإشتراكية، سوى الحفاظ على تحالفاته الجديدة القديمة مع سوريا وإيران، مهما غلا الثمن، ومهما كانت النتائج.
لكن السؤال: هل ستنجح السياسة الروسية الجديدة بوقف رياح الربيع العربي على البوابة السورية، أم أنه سينتج ربيعاً عربياً آخر غير الذي أزهر حتى الآن.
الواقع يقول إن روسيا التي عادت من جديد في عهد الرئيس بوتين تبحث لها عن دور وتواجد فعال على الساحة الدولية تنظر لمنطقة الشرق الأوسط بعين الاعتبار وتوليها اهتماماً كبيراً باعتبارها المنطقة الأكثر سخونة في العالم، وقد حاولت موسكو تفعيل هذا الدور من خلال وجودها ضمن الرباعية الدولية التي تتولى النزاع في الشرق الأوسط مع واشنطن والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكنها وجدت تعمدا واضحا من واشنطن وتل أبيب لتهميش دور هذه الرباعية الدولية بسبب وجود روسيا فيها، وربما هذا ما دفع موسكو إلى توجيه الدعوة لقادة حماس لزيارتها في ظل الضغوط الأميركية الإسرائيلية على الدول كافة لعدم استقبالهم أو التعامل معهم، هذا إلى جانب استمرار التعاون الروسي مع إيران في برنامجها النووي، وموقف موسكو الثابت ضد أية عقوبات دولية على إيران، كل هذه الأوضاع وربما غيرها كثير، جعلت الدور الروسي في الشرق الأوسط مرصوداً ومحاصراً دائماً من قبل واشنطن وتل أبيب.
وعلى مستوى الصراع العربي الإسرائيلي فإن الروس يعلمون جيداً أنهم لا خيار لهم في تأييد ودعم الحقوق العربية، حتى ولو كان العرب أنفسهم لا يعيرون اهتماماً كبيراً لهذا التأييد، خصوصاً الأنظمة العربية المرتبطة غالبيتها بواشنطن بمصالح شخصية أكثر منها وطنية، إلا أن موسكو إلى حد كبير ملتزمة بموقفها، وهذا ليس إرثاً سوفياتياً كما يعتقد كثيرون، لكنه أمر يفرضه واقع الظروف والأوضاع على الساحتين الدولية والإقليمية، فروسيا التي تعيش مع الولايات المتحدة الأميركية حرباً باردة جديدة من نوع خاص بعيدة عن الأيديولوجيات تعي جيداً أن وقوفها بجانب “إسرائيل” لن يفيدها في شيء، والعلاقات الخاصة جداً بين أميركا و”إسرائيل” تجعل من أي تقارب بين موسكو وتل أبيب مجرد تحصيل حاصل لا يضيف لروسيا شيئاً ولا يمكن أن يعطيها المكانة التي تصبو إليها في منطقة الشرق الأوسط، لهذا يمكن القول إن دعم وتأييد روسيا للقضايا العربية هو قدر موسكو وخيارها الأوحد، ولكن ما يعوق الدور الروسي في المنطقة ليس فقط العلاقات الخاصة جدا بين واشنطن و”إسرائيل”، بل على الأكثر هو موقف الأنظمة العربية الحاكمة التي وضع معظمها كل أوراقه في السلة الأميركية على غير رغبة شعوبه، وهو الأمر الذي ربما يفسر بوضوح دعم موسكو للمقاومة الفلسطينية واللبنانية وللنظام السوري والإيراني بمختلف الأشكال والوسائل العلنية والخفية غير آبهة بانتقادات واشنطن و”إسرائيل” لها، ولا توجد لدى روسيا إيديولوجية خاصة تتوجه بها إلى الشعوب العربية مثلما كانت لدى الاتحاد السوفياتي، لكنها تضع أملاً كبيراً على وعي وفاعلية الشعوب العربية التي أصبحت تعي جيداً من هو عدوها ومن صديقها.
لقد حاول البعض أن يشوه الموقف الروسي بأن روسيا تحاول أن تستدرج عرضاً أميركياً للمساومة على سوريا وموقعها دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن روسيا اليوم بعد أن استعادت انتظامها الاقتصادي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وخرجت من أزماتها المتعددة، تسعى إلى استعادة موقعها الدولي من حيث إعادة التوازن العالمي والخلاص من وحدانية القطب التي مارستها الولايات المتحدة بكثير من الغطرسة والصلف، وبالتالي من يريد المساومة لا يزود سوريا بأسلحة ومنظومات صاروخية متطورة وفاعلة.
ببساطة شديدة فإن المعركة الدائرة اليوم من الباب السوري، ليست معركة سورية وحسب من حيث الدور التاريخي والحضاري لسورية وموقعها الاستراتيجي في المنطقة، ولذلك فإن العالم كله يدرك أن المعركة هي كونية من حيث نتائج هذه المعركة، فإما أن تهزم سوريا، وهذا مستحيل، فيصبح العالم لقمة سائغة للقوى الاستعمارية المتجددة، وإما أن تنتصر سوريا، وهذا يقين، وعندها سيستعيد العالم توازنه وترفع اليد الأميركية، في مرحلة أولى قبل أن تقطع عن رقاب الشعوب.
كل تلك المؤشرات أحبطت المراهنين على تغيير الموقف الروسي والذي يرددون بغباء فطري ومطلق أن هدف روسيا هو رفع السعر، وليس الدفاع عن موسكو واستعادة التوازن القطبي إلى الكرة الأرضية.
إعداد: لميس داغر