تدفعنا الحاجة الوطنية الى الإضاءة بصورة فاعلة حول موضوع جوهري آن الأوان لمقاربته بروح علمية وموضوعية بعيداً كل البعد عن التفسيرات السياسية والطائفية وهو يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية بين النص الدستوري والممارسة السياسية.
لقد كان النظام اللبناني قبل التعديل الدستوري في العام 1990، نظاماً برلمانياً أورليانياً حيث كانت السلطة التنفيذية يومها وسنداً للمادة 17 من الدستور بيد رئيس الجمهورية يعاونه الوزراء وهو الأمر الذي أدّى يومها الى منح رئيس الجمهورية صلاحيات فاعلة حيث تحوّل الى محور للنظام السياسي في لبنان.
وبالعودة الى النص الدستوري القديم للمادة 53 من الدستور وقبل تعديلها في العام 1990 كانت تعطي رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة أهمها صلاحية تعيين الوزراء واختيار رئيساً لهم من بينهم، ولكن رئيس الجمهورية ومن منطلق حرصه في المحافظة على التوازن الوطني والمشاركة الحقيقية امتنع دائماً عن ممارسة هذه الصلاحية بحيث كان يجري استشارات نيابية لتكليف شخصية من الطائفة السُنّيّة لتأليف الحكومة؛ وقد سار على هذا المبدأ التوافقي كافة رؤساء الجمهورية منذ الاستقلال وحتى إتفاق الطائف سنة 1989 حيث تمّ تعديل المادة 53 المذكورة أعلاه.
إن الإشارة الى هذا الموضوع إنما يندرج في إطار التأكيد على أن هدف التوازن الوطني الصحيح ولمصلحة لبنان كان لدى رؤساء الجمهورية أهم بكثير لديهم من التمسك بحرفية نصوص دستورية جامدة، لذلك فقد شكّل هذا الواقع التطبيق الإيجابي لمبدأ المشاركة الوطنية في النظام السياسي وكم نحن اليوم بحاجة الى ممارسة هذا الوفاق على الصعيد الوطني، وذلك في ظل الخلل الواضح حالياً في التوازن الدستوري في نظامنا السياسي.
ولكن تبعاً لتعديلات الطائف تحوّل النظام السياسي اللبناني وكما ذكرنا سابقاً، من نظام برلماني أورلياني الى نظام برلماني شبه كلاسيكي خاصة وان السلطة التنفيذية التي كان يمارسها رئيس الجمهورية سنداً للمادة 17 من الدستور بمعاونة الوزراء، تحوّلت بعد تعديل هذه المادة الى مجلس الوزراء مجتمعاً وليس الى رئيسه ولكن بقيت لرئيس الجمهورية بعض الصلاحيات أهمها مشاركته حسب المادة 53 من الدستور مع رئيس الحكومة المكلف في تأليف الحكومة اللبنانية وترؤس جلسات مجلس الوزراء ساعة يشاء وإعادة القوانين الى المجلس النيابي لإعادة مناقشتها ضمن مهلة محددة تبعاً للمادة 57 من الدستور ومراجعة المجلس الدستوري والإعتراض على قرارات مجلس الوزراء ضمن مهلة 15 يوماً، إضافة الى صلاحيات أخرى منصوص عنها في الدستور.
وفي حين ضمن الطائف لرئاسة مجلس النواب الإستقرار وكرّس ولاية رئيس المجلس بأربع سنوات، كي يلعب مجلس النواب دوره بعيداً من ضغوط السلطة التنفيذية وتأثيراتها، ويمارس دوره التشريعي والرقابي ليستقيم عمل السلطات الدستورية في إطار التعاون والتوازن وضمن مفهوم مبدأ فصل السلطات الذي نصت عليه مقدمة الدستور، نصت المادة 49 من الدستور على أن “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور. يرأس المجلس الأعلى للدفاع وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء”.
ولكن كيف يمكن تحميل رئيس الجمهورية كل هذه المسؤولية وهو ليس له حتى حق التصويت في مجلس الوزراء ولا حق تعيين الوزراء وتسمية رئيس منهم، ولا حق إقالتهم وذلك بحجة أن الصلاحيات الواسعة التي كان يتمتع بها قبل دستور الطائف جعلته “ملكاً على جمهورية” ولكن لا يجوز أن تجعله الصلاحيات التي تحددت له من هذا الدستور يملك ولا يحكم “مثل ملكة إنكلترا ويكون مطلوباً منه في الوقت نفسه السهر على احترام أحكامه ومطالبته أي مسؤول باحترامها أيضاً لأن هذا واجب رئيس الجمهورية ولأنه وحده أقسم اليمين على ذلك.
وفي هذا المجال يطرح العديد من الدستوريين والسياسيين أن يعاد الى رئيس الجمهورية بعض من الصلاحياات المفقودة كي لا يتحوّل مقامه الى مقامات رمزية كما في العديد من الدول (الملكيات الدستورية في الأنظمة المختلطة كما في البرتغال أو إيطاليا أو في بلدان شرق أوروبا، ومن بين هذه الصلاحيات المطروحة حق رئيس الجمهورية التصويت ليكون صوته الوازن هو الحكم في مجلس الوزراء، ويحسم الخلافات بين الوزراء أو أن يكون له وزراء يكون صوتهم هو الوازن وهذا ما عناه الدستور في البند 4 من المادة 53 فيه: “يصدر (رئيس الجمهورية) بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم استقالة الوزراء أو إقالتهم”.
وقد وضع هذا النص تعويضاً لحرمان الرئيس حق التصويت في مجلس الوزراء فجعل تشكيل أي حكومة رهناً بالإتفاق بينه وبين رئيس الحكومة ومن دون التوصل الى هذا الإتفاق تبقى الأزمة الوزارية مفتوحة ومن الطبيعي عدم حصول إتفاق بينهما إلا عندما يرى رئيس الجمهورية أن تشكيل الحكومة يراعي حقوق كل الطوائف ولا يناقض ميثاق العيش المشترك لئلا تفقد الحكومة شرعيتها.
إن التوصل الى إتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة معناه الإتفاق على أسماء الوزراء وعلى توزيع الحقائب ومعناه ضمناً أيضاّ أنه يكون لرئيس الجمهورية وزراء يشكلون داخل مجلس الوزراء صمام أمان وخط دفاع عن مصلحة الوطن عند التصويت على المواضيع الأساسية والمهمة خصوصاً عندما تتعادل الأصوات داخل مجلس الوزراء ولا بدّ من أصوات راجحة، هي أصوات هؤلاء الوزراء وبها يستطيع رئيس الجمهورية أن يكون حاكماً وحكماً في آن واحد أو تكون أصوات ممتنعة إذا رأى رئيس الجمهورية أن المصلحة العامة تقضي بذلك.
ليس هدفنا من خلال هذه المطالعة الدستورية والسياسية العودة الى المرحلة التي سبقت إقرار وثيقة الوفاق الوطني سنة 1989، بل إننا نسعى من خلالها الى تأمين التوازن الدستوري والتطبيق الصحيح لمقدمة الدستور ولوثيقة الوفاق الوطني وليس الخروج عنهما وذلك من خلال تمكين كل سلطة دستورية من أداء دورها وصلاحياتها انسجاماً مع الدور المعطى لها في الدستور تأكيداً لمبدأ الفصل والتوازن بين السلطات، وهو الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أن الموضوع الذي نسلّط الضوء عليه إنما يهدف الى تأمين الحماية الوطنية لنظامنا البرلماني ولموقع رئيس البلاد وللمواقع الدستورية الأخرى.
إن تعزيز دور رئاسة الجمهورية خاصةً من خلال الصلاحيات المشار إليها، وتعزيز دور المؤسسات الدستورية عامةً، يعني أن اللبنانيين بدأوا بالتعلّم من تاريخهم العريق وباستخلاص فلسفة وطنية تدعم إستقلال بلدهم ومقاومته واستقراره والتضامن بينهم، وأنهم أحجموا عن المجازفة بمصير وطنهم من خلال إعادة إنتاج صراعات وتعبئة مذهبية وعدم إدراك بالمخاطر الخارجية ونبذوا فكرة إستعادة لبنان الساحة، إذاك تتوطد حكمة لبنانية لدى كل اللبنانيين كثمرة إتعاظ واختبار تاريخي لبناني طويل، وضرورة المحافظة على رسالة لبنان التعددية في هذا الشرق، وجعلها أمثولة لبعض الأنظمة العربية المتنوعة في تكوينها الطائفي والباحثة عن استقرارها الداخلي.
ذات يوم وفي ظل الإنقسامات السياسية التي شهدتها فرنسا أطلق الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران عبارته الشهيرة:
“Dans les moments de crises, il ne suffit pas de parler la même langue mais surtout le même langage”.
لقد آن الأوان كي يتفق قادة الرأي في لبنان على أن مصلحة بلدهم يجب أن تعلو فوق أية مصلحة أخرى وأن يسعوا بروح مسؤولة ومن خلال الحوار الهادئ والمتوازن الى تأمين الوفاق الوطني الصحيح لأن الوفاق الحقيقي لا يكون ولا يجب أن يكون في التوافق على أخطاء وعلى خطايا باسم الوفاق، وليس من خلال خطاب نزاعي مبرمج الذي لم يعد يتلائم مع التجربة اللبنانية المعاشة اليوم ولصالح الجيل الجديد.
إن العودة إلى جذور وثيقة الوفاق الوطني وميثاق الطائف هي بالغة الفائدة في سبيل بناء ثقافة دستورية لبنانية لا تقتصر على تحليل النصوص في شكل مجرّد عن أبعادها التاريخية ومخاضها العسير وما تطلبته من مخيلة دستورية قد يعجز عنها العديد من الحقوقيين والخبراء الأجانب.