نالت معظم الدول العربية استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، وكان هذا ثمرة للتضحيات التي قدمت أولاً ومن ثم الظروف المحيطة في البيئة الإقليمية والعالمية، لكن بعضاً من هذا “الإستقلال” أصبح شكلياً، لأن الإستعمار لم يخرج من بلادنا إلا بعد أن أوكل لأدواته القيام بالدور وجعل تلك البلدان ضعيفة وتابعة، وأكثر من ذلك بقيت عوامل التجزئة والتخلف تفعل فعلها ووجدت مَن يغذيها من أصحاب المصالح الذين ربطوا حياتهم اليومية بالمستعمر على حساب شعوبهم وحاجاتها وكان الهدف إبقاء البلاد رهينة الدول الإستعمارية، ومن ثمّ تمّ زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية كمعول هدم وعائق لأي عملية نهوض حقيقية.
لم تستمر الحالة هكذا، إذ استطاعت بعض الدول العربية أن تبدأ عملياً بتغيير المعادلات الموروثة وبدأت تعمل من أجل عملية نهوض حقيقية، ومحاولات الوحدة العربية بين أكثر من قطرين عربيين وتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية، من الإعتماد على النخب الى الإعتماد على المؤسسات ومن ثمّ التأميم وما الى هنالك من إجراءات، ويسجل تحقق نجاحات باهرة في الميادين الصناعية والزراعية وهدفها الإعتماد على الذات ورفع مستوى المعيشة وبناء نهضة حقيقية.
من هنا نفسر شدة الهجمة التي استهدفت عدداً من الدول العربية مثل (مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن والجزائر ولبنان) وغيرها، وفي الحالة الراهنة الهجمة التي تستهدف أمتنا، استطاعت سوريا أن تصمد وتقاوم الهجمة والإرهاب وهي في طريقها الى تتويج النصر النهائي وستكون الأساس في تحقيق الأمن القومي العربي وبناء توازنات إقليمية جديدة بدعم من روسيا التي دفعت الأثمان بعد تفكك الإتحاد السوفياتي، ولها اليوم مصالح في المنطقة ومن خلال عملية تكامل يمكن البناء عليها، أي أن توازنات إقليمية بدأت حوّلها الصمود والمقاومة الى واقع ونقطة ارتكاز للأمن القومي العربي.
لقد أثبتت الأحداث، بأن الولايات المتحدة لا تمتلك رؤية موضوعية تجاه المنطقة وهي ترى “إسرائيل” فقط، قاعدتها في المنطقة، ومازال الفكر التدميري سبيلها لتحقيق أهدافها، تماماً كما فعل المحافظون الجدد الذين عملوا على تفكيك المنطقة عبر الحروب الأهلية التي افتعلوها إبان غزوهم العراق، ومن خلال نظم التبعية والإرتهان كما في الدول الرجعية التي أصبحت تواجه الإنتحار الذاتي، وأميركا لم تأتِ الى المنطقة لمحاربة “داعش” وأمثالها، لكنها تعمل على ضبط عملها بما يخدم الأجندة الأميركية، لذلك تعمل على إمكانية التقاطع معها عبر قطر وغيرها.
وأمام عجز الولايات المتحدة عن تحقيق أهدافها من خلال حروبها وما جرته من ويلات، فهي اليوم في مرحلة عجز استراتيجي وهي مجبرة للإذعان الى رؤى روسية تمكنها من التراجع وحفظ مصالحها في المنطقة.
أفرزت المواجهة واقعاً جديداً مختلفاً، فشلت الهجمة التي استهدفت سوريا والمقاومة، ومؤتمرات الفتنة وائتلافات اسطنبول والدوحة أصبحت من الماضي، وتوظيف تيارات التطرف والإسلام السياسي للعبث باستقرار المنطقة لم يعد يجدِ نفعاً في إثارة القلاقل والمشكلات وتعميم الفوضى، لذلك نرى وضوح الموقف الروسي وهو صارم في التصدي لهذه المحاولات ومن خلف هذا الموقف تقف الصين ولديها الرغبة في هزيمة “داعش”، وتؤكّد الأحداث أن مَن عمل من أجل التخريب والعبث في الإقتصاد والتخريب الديني والمذهبي والحروب الهمجية لا بد من أن يدفع الأثمان.