إستقبل اللبنانيون العام الجديد على أمل كبير بأن يحمل إليهم حلولاً ناجعة رغم التراكمات السلبية وحال الأزمة التي تهدد الإستقرار ومستقبل الوطن على كافة الصعد الحياتية.
وما بين الوقائع الماثلة والتصور المأمول يمكن القول، إن أحداث المستقبل هي جزء لا يتجزّأ من أحداث الماضي، لكن تاريخ لبنان الحضاري والإنساني يسمح لنا بأن نستمر في الرهان والقول، بأن لبنان سيخرج من أزماته وسيتغلّب على أخطاره، وهو الذي وصل الى القرن الحادي والعشرين متجاوزاً الكثير من العقبات وبعض عوامل الضعف، واليوم لا يمكن فصل التداعيات السلبية على لبنان، تلك التي عصفت بالمنطقة بسبب حالة الصراع التي تسود المنطقة منذ أن زُرع الكيان الصهيوني في جسد الأمة وعلى أرض فلسطين.
ولم يكن لبنان حالة طارئة في تاريخ المنطقة، لأن دوره تجاوز إمكانياته وحدوده الجغرافية الى حدود الفعل والتأثير في أكثر من ساحة، وذلك لما يتمتع به من أصالة ومفاهيم وطنية واستقلالية في الرأي والقرار تكرّست عبر تاريخه الطويل وبسبب تنوعه الفكري، وتركيبته السكانية، وقدره أنه كان دائماً في واجهة الأحداث ومؤثراً ومتأثراً بكل ما يجري حوله.
وعاش لبنان في بداية استقلاله بدستور جيد نسبياً إذا قيس بدساتير الدول الغربية، وميثاقه الوطني غير مكتوب ولكنه يرمي الى تدعيم صيغة الإستقلال في نفوس المواطنين، حيث أعلن رسمياً بأن لبنان ذو وجه عربي، وجاءت الأحداث لتؤكّد بأن لبنان هو بمثابة القلب والعقل في ضمير أبناء الأمة بسبب ما يتمتع به من قيم وأصالة ومواقف أكّدت من خلال التضحيات التي قدمت بأنه تحمّل المسؤولية وبكل جدارة وكان عروبياً ومقاوماً بإمتياز.
وفي المجال المتعلق بالوطنية وداخل إدارة الدولة وبرلمانها التمثيلي وحكوماتها المتعاقبة، كثر الحديث عن دور لبنان بسبب حالة الجدل المستمرة نتيجة التطورات الإقليمية وحجم الإستهداف وحيث الأخطار تهدد المنطقة بأسرها.
والسؤال الذي يتكرّر يتعلق بتمثيل إرادة الناخب اللبناني في برلمانه، هل هو صحيحاً وسليماً؟ وما طبيعة القانون الإنتخابي الذي يسمح بالتمثيل الحقيقي؟
وعندما شغر منصب رئيس الجمهورية منذ 25 أيار 2014 وحتى الآن لم يتوافق أهل الرأي ورؤساء الكتل النيابية على توحيد نظرتهم للأزمة المصيرية التي تحيط بوجود لبنان، فتأجّلت جلسات البرلمان واحدة تلو الأخرى، ولا تزال تتأجل بإنتظار توافق إقليمي ودولي ينعكس على قرارات النواب كي يخرجوا من أزمتهم برئيس جديد للبلاد، يستكمل لبنان به هيكليته الدستورية، بعد أن توزّعت صلاحيات رئيس الجمهورية ما بين رئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء ومن غير جدوى للبلاد، وخلال تطورات إقليمية صعبة وتحديات خطرة لم تشهدها المنطقة ولبنان من قبل.
اليوم تظهر الحاجة الماسة أكثر من أي وقت الى تعديل قانون الإنتخابات، بإتجاه قانون يسمح بتمثيل حقيقي والتخلص من سيطرة الزعماء المصطنعة، أي البحث عن إجراء قانوني يسمح بإزالة الطائفية على مراحل والوصول الى مجلس نيابي أكثر تمثيلاً لإرادة الشعب وأكثر قدرة على إنتخاب رئيس للجمهورية كي يستطيع التحرك لإنقاذ الدولة.
والسؤال، ما الذي يمنع إتفاق اللبنانيين؟ ولماذا لا ينتخب رئيس من قبل الشعب مباشرة؟ وهذا أيضاً يخدم إضعاف الطائفية وإلغائها، وهذا السؤال وغيره برسم النخب الحاكمة والأحزاب جميعها، والسؤال أيضاً، أين الإرادة الشعبية الجامعة؟
ومنذ إنتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان في أيار الماضي، ينهمك لبنان بتسيير أعمال مؤسساته الدستورية قدر المستطاع وسط خلاف سياسي مستفحل يبقى منصب الرئاسة شاغراً، إذ يفشل البرلمان الذي ينتخب الرئيس في تحقيق النصاب المطلوب لذلك.
ولبنان منذ ذلك الحين دخل في نقاش الأنظمة الإنتخابية، النسبية والأكثرية والفردية، وعيوب وإيجابيات تلك القوانين وتطابقها وطبيعة النظام السياسي وصيغته الطائفية، وتوازناته السياسية، فبات حساب النتائج يغلب حساب القانون، الى أن برز قانون جديد بإسم “القانون الأرثوذوكسي” الذي يطالب بانتخاب الطوائف لمرشحيها، ما أعاد خلط الأوراق وأطاح بالقوانين المطروحة وحصل التمديد للمجلس النيابي على أساس الضرورة شرط إعداد قانون جديد للإنتخابات، إلا أن ما خلصت إليه اللجنة الأخيرة من قانون مختلط بين النظامين الأكثري والنسبي، يشكّل مخرجاً مؤقتاً لتسوية تضمن استمرار الواقع الحالي للنظام السياسي على ما هو عليه، إلاّ أن تأجيل البث بالقانون الى ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يعيد ربط الملفات ببعضها وترحيلها الى التسوية الكبرى وتوازناتها الجديدة، وهذا ما جعل البرلمان يمدّد لنفسه ولاية ثانية من أربع سنوات على أن تنتهي ولاية النواب الممددين لأنفسهم قسرًا في العام 2017، أما المبرر فكان عدم القدرة على إجراء انتخابات نيابيّة بسبب الوضع الأمني الدقيق في لبنان.
أضف الى ملف العسكريين المخطوفين في جرود عرسال الذي رُحّل بدوره الى العام الحالي.
العام 2015 وحلول للأزمات اللبنانية؟!
وفي ظل تكثيف التحركات الداخلية والخارجية من أجل التوصل الى حلول للأزمات المختلفة وخصوصاً على صعيد الإنتخابات الرئاسية وحماية الإستقرار الداخلي وتشكيل حكومة جديدة وإجراء الإنتخابات النيابية بعد الإتفاق على قانون إنتخابي جديد، إنتهى العام 2014 بإنطلاقة إيجابية للحوار بين “حزب الله” وتيار “المستقبل” والتحضير للحوار بين الحزب وحزب الكتائب، كما استمرت التحضيرات من أجل عقد لقاء بين العماد ميشال عون ورئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع بعد أن حصلت عدة لقاءات تمهيدية بين مسؤولين عونيين ومسؤولين في القوات اللبنانية.
وبموازة ذلك تتكثف التحركات الإيرانية والفرنسية والسعودية والروسية من أجل التوصل الى حلول للأزمة اللبنانية، حماية للإستقرار الأمني والداخلي وتخفيف أجواء التشنج العام وخصوصاً على صعيد العلاقات السنية – الشيعية، والتحضير لإجراء الإنتخابات الرئاسية بعد التوافق على رئيس يحظى بموافقة جميع الأطراف الأساسيين.
وتنقل المصادر الدبلوماسية أن فرنسا، وفي مقاربتها للشأن اللبناني المستعصي حالياً على الحلول، تأمل أن يؤدي حوار تيار “المستقبل” و”حزب الله” من جهة، و”القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحرّ” من جهة ثانية، إلى نتائج إيجابية. واعتبرت أن أي تقدّم في الحوار يسهّل البدء بطرح حلّ متكامل للأزمة اللبنانية، وتلفت المصادر الدبلوماسية أن ما تريده فرنسا هو “اتفاق دوحة”، وإنما في لبنان هذه المرّة، عبر جمع الحوارين الإسلامي والمسيحي ضمن حوار وطني شامل، الأمر الذي يدل على أن العام 2015 قد يحمل مؤشرات إيجابية للتوصل الى حلول لمختلف الأزمات ما لم تحصل تطورات غير تقليدية كقيام العدو الصهيوني بحرب جديدة، والتي حاول فتحها من الجولان من خلال عدوان القنيطرة على سيارتين لـ “حزب الله” سقط خلاله ستة مقاومين في “حزب الله”، من بينهم جهاد إبن الشهيد عماد مغنية، ما سيشكّل نقطة تحول في الصراع المفتوح بين “حزب الله” و”إسرائيل”، إذ مثّل الإعتداء الإسرائيلي على القنيطرة السورية، علامات استفهام كبيرة حول دخول العامل الإسرائيلي على خط الصراع الجاري في سوريا، وتداعيات ذلك على الساحة اللبنانية التي دخلت مرحلة بالغة الحساسية أمنياً، على الرغم من مناخات الحوار والتوافق القائمة بين كافة القوى السياسية، بهدف تهدئة الساحة الداخلية، والعمل لمواجهة التحديات الأمنية الناجمة عن استهداف لبنان من قبل الإرهاب: فمسلسل التفجيرات الذي عاد بقوة بعد تفجيري جبل محسن، والكشف عن سلسلة مخطّطات إرهابية لإثارة الفتنة وضرب الهدوء الذي تنعم به الساحة اللبنانية، تزامن مع تطوّرات دراماتيكية تشهدها المنطقة، وتصاعد في موجة الإرهاب التي طالت أوروبا، فيما يستمر الصراع عنيفاً على الساحتين السورية والعراقية.
وما يجري في عرسال حالياً هو بمثابة ناقوس الخطر لما يمكن أن يصبح عليه لبنان إن لم تسارع الحكومة اللبنانية والقوى السياسية اللبنانية الى معالجته بالتي هي أحسن حتى لا يصبح لبنان جزءاً من المشكلة أو الحريق المشتعل من دمشق إلى الموصل.
وهذا الأمر إذا لم يتم التعامل معه بالتنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري والمقاومة، فهو أقرب وصفة إلى الخراب في لبنان، الذي بدأ عامه الجديد مع تفجيرين لإنتحاريين في جبل محسن، هزّا الأمن في طرابلس بعد إستقرار عرفته منذ تطبيق الخطة الأمنية فيها في أيار من العام 2014.
لقد حقّق الجيش اللبناني إنجازات أمنية وعسكرية رفعه الى مستوى متقدّم من الثقة التي حظي بها من الشعب اللبناني، كما من المجتمع الدولي والعالم العربي، فتدفقت عليه المساعدات والهبات لتسليحه وتعزيز قدراته في محاربته للإرهاب، إذ أثبت قدرته بين الجيوش التي تحارب هذه الظاهرة العالمية، أن المؤسسة العسكرية نجحت في أن تشكّل الضمانة للسلم الأهلي، بتنفيذ الخطط الأمنية التي وضعت لعدد من المناطق بقرار سياسي، وهذا ما ساهم في أن يحظى لبنان بالإستقرار.
ولا يمكننا تجاهل الوضع الإقتصادي الذي وصل إليه لبنان في العام 2014 من اقتصاد منهك بسبب الأزمات السياسية المتتالية منذ تسع سنوات وتداعيات الثورة السورية، التي بدأت في 2011، إذ بلغت خسائر لبنان بفعل الأزمة السورية 11% في حين لا تتجاوز الـ 1,5% في كل من تركيا ومصر والأردن، ويتُوقَّع أن يصبح ما بين 220 و320 ألف مواطن لبناني عاطلين عن العمل في 2015.
كذلك ويتوقع أن يبقى العجز في المالية العامة في مستوى نهاية 2013، عند 9,3% من الناتج المحلي الإجمالي نتيجة تكاليف اللجوء السوري، إذ بلغ عدد اللاجئين السوريين إلى لبنان 1,5 مليون شخص، ما يعادل حوالى ثلث سكان البلاد، وفق تقديرات البنك الدولي.
وأمام هذا الوضع المأزوم، اضطر البرلمان للتجديد لنفسه، فلا المؤسسة العسكرية ولا القوى الأمنية بمقدورها في ظل الوضع الداخلي المشحون بالتوتر تأمين إجراء انتخابات تشريعية تتسم بالحد الأدنى من الأمن ومن النزاهة والشفافية، هذا بصرف النظر عن حاجتنا الماسة لتشريع قانون انتخابي جديد.
ويبدو الوضع المعيشي لنا خلال العام المنصرم في غاية السوء، فالقطاع السياحي وهو مصدر رئيسي من مصادر الدخل لعشرات ألوف العائلات في خط انحداري واضح، بعد أن أصبح لبنان بلداً غير آمن بالنسبة للسياح العرب، واستشرت البطالة فيه، وأصيب القطاع زراعي بأضرار فادحة لصعوبة التصدير من جهة ولسوء الأحوال الجوية من جهة أخرى.
في عام 2014 باتت الجمهورية بلا رأس وقامت حكومة بـ 24 رأساً، وأكمل مجلس النواب عملية التمديد لنفسه، ولكن استحال انتخاب رئيس للدولة بين مرشح معلن وآخر مضمر وآخرين ينظرون وينتظرون، كما هي سنة العسكريين المخطوفين الذين يشكّلون مأزقاً وطنياً عاماً لا يعرف أحد سبل الخلاص منه خصوصاً بعدما تشعبت سبل التفاوض حكومياً وتبرع بعض المشايخ لغايات غير مكشوفة حتى الساعة دون الوصول الى بريق أمل يعطي لأهاليهم الطمأنينة حول مصيرهم، والهيبة الضائعة والأمن المهزوز، فضلاً عن كونها السنة التي قيل فيها أخيراً للرعايا اللبنانيين أن الفساد المستشري في ربوعهم لم يسلم منه ما يأكلون ويشربون ويسكنون ناهيك بالهواء الذي يتنشقون!