يوماً بعد يوم يتأكّد وبالوقائع الملموسة، أن لبنان مستهدف من قوى الإرهاب، وتبيّن ما تخطط له الجماعات الإرهابية من أخذ البلد الى أتون صراعات عبثية تخدم كل الأجندات المشبوهة، واختارت خطف طرابلس من أهلها وجعلها مدينة خارجة عن القانون وبيئة حاضنة لقوى الإرهاب والتكفير.
أراد أعداء الإنسانية، اغتيال طرابلس ومحو تاريخها وموقعها ودورها الوطني، وضعوا السكين على رقبة المدينة وكعادتهم في القتل والتدمير وزعزعة الاستقرار وتدمير معالم الحياة في المدينة الآمنة.
أراد المجرمون القتلة الاعتداء على الجيش اللبناني، عماد الوطن ورمز وحدته، وتستروا بأولئك الذين يأخذون الدين وسيلة للوصول الى أهدافهم وحتى لو تطلّب ذلك تشويهه كما يفعل القتلة في كل مكان تواجدوا فيه.
لم يتغيّر الكثير بالأحلام المريضة للإرهابيين التكفيريين بين واقعة نهر البارد وما قبلها وآخر وقائع محاولات أسر طرابلس وبعض مناطق الشمال بعد صولات وجولات لنحو عشر سنوات خاضوا خلالها 20 جولة قتال ضد جبل محسن استهدف خلالها الجيش في وحدته ووطنيته.
ولعل ما شهدته طرابلس في الفترة الأخيرة كان بمثابة “المعمودية” الأشد خطورة التي خاضها الجيش ومن ورائه أبناء المدينة وفعالياتها وكذلك المناطق الأخرى التي تمددت إليها أصابع مخطط إشعال الشمال لاستهداف الجيش وإشغاله عن جبهات المواجهة مع التنظيمات الإرهابية على الحدود الشرقية بعدما أقفلت على الإرهابيين هناك مسالك الإختراقات فأنبرت خلاياهم المزروعة في طرابلس وبعض المناطق في عكار عقب الضربة القاسية التي تلقتها في عاصون الى الهجوم انطلاقاً من عاصمة الشمال، لم يكن أدل على الخطورة القصوى التي اكتسبها المخطط الجديد من ظهور مجموعات المسلحين في مكامن مسلحة متفرقة لوحدات الجيش ورصد تحركات بعيدة عن ساحة الاشتباكات والقتال في طرابلس في المحمرة في عكار بغية تشتيت قوى الجيش ومحاولة خطف أو قتل أكبر عدد من أفراده.
قوّض الجيش المؤامرة مرة جديدة بإثباته المضي دون أي هوادة في عمليات عسكرية نوعية مكلفة تشهد عليها شهادات إضافية لشهدائه من الضباط والعسكريين في ضريبة الدم (12 شهيداً بينهم 3 ضباط في المحمرة، و91 جريحاً عسكرياً بينهم 9 ضباط في بحنين إضافة الى 10 قتلى مدنيين و63 جريحاً وأضرار مادية قدّرت بـ 30 مليار ل.ل) ولكن أيضاً القرار العسكري والسياسي الرسمي الملازمين للمواجهة مهما طال الزمن ومهما كلفت من تضحيات، ولعل أهم ما أبرزته الوقائع العسكرية أن الجيش بدا في حالة تعبئة وجهوزية عالية تمثلت الى صلابته في تعقب مجموعات مدربة ومحترفة في نصب الكمائن والانتشار بين الأحياء في إحباطه محاولات عدة لهؤلاء لخطف عسكريين في مناطق مختلفة قريبة من مناطق الإشتباكات وبعيدة عنها في آن واحد .
واكتسب الموقف السياسي لفعاليات طرابلس وقواها وزعمائها كذلك التحركات الشعبية الداعمة للجيش في عكار وطرابلس وكذلك المواقف المعلنة لسائر القوى السياسية الأخرى بعداً شديد الأهمية من خلال الاصطفاف والدعم المطلق للجيش في عملياته وإطلاق يده في كل أنواع العمليات التي سيمضي فيها في هذه المواجهة بما أسقط أي غطاء مزعوم أو واقعي للمسلحين ونزع أي ذريعة من أي جهة من شأنها أن تعيق اندفاع الجيش نحو حسم عسكري محتوم متدرج وفق ما تفرضه طبيعة المواجهة التي ربما تشهد فصولاً متعاقبة يصعب من الآن التكهن بمداها الزمني. ذلك أن ما حُكي عن هدنة لا يبدو وارداً في حسابات الجيش ولا أيضاً في حسابات الحكومة مع جسامة الأهداف التي أبرزتها الهجمة الإرهابية على الجيش وعلى أبناء طرابلس والشمال الذين يراد لهم أن يضحوا أسرى التنظيمات الأصولية الإرهابية لإعلان إمارة سقط مشروعها مجدداً ولكن من دون أن يعني ذلك سقوط محاولات استرهان المناطق التي كانت مسرحاً لها.
واللافت أن المعركة التي كانت متوقعة في عرسال إشتعلت في طرابلس على خلفية وقوع إرهابيين بقبضة الجيش وقتله مَن هم أبرز قادتهم لتكشف معركة طرابلس عن جاهزية كبيرة للمسلحين وعن معركة مبيتة للمدينة لم تندلع كما كانت سابقاً في باب التبانة أو جبل محسن، إنما في أسواقها وشوارعها، تؤكد أهمية طرابلس تحديداً في المعركة المرسومة لـ “بلاد الشام” بحسب خريطة التطرف بالمنطقة. فطرابلس هي الهدف الأسهل على البحر المتوسط والمرشحة لتكون أول إمارة لـ “داعش” على البحر المتوسط بعدما استعصى ذلك على الساحل السوري، وعليه فإنّ المعركة في طرابلس تبدو من أقوى المعارك التي حضّر المسلحون لاستنزافها مطولاً عبر توسيع بؤر التوتر وانتقال الإشتباكات من عرسال الى طرابلس ومحاور ومدن أو بلدات أخرى، هي أصلاً بينها وبين الإرهاب صولات وجولات هو أقرب ما يكون من أي توقع عسكري لإنهاك الجيش اللبناني وتشتيته على أكثر من محور، وذلك من أجل تخفيف الضغط العسكري عليها في طرابلس، ما دفع “أمراء المجموعات الإرهابية” في الشمال للعمل جاهدين من أجل نقل معركة طرابلس إلى مخيم عين الحلوة وصيدا، لكن محاولاتهم هذه ووجهت برفض من كلّ الأطياف السياسية والعسكرية في المخيم وأيضاً بيقظة الأجهزة الأمنية اللبنانية.
كل هذه التطورات والوقائع تكشف أن ثمة طرفاً إسلامياً متطرفاً، وقبل أن تقع “الثورات العربية” والأحداث في سوريا، يعمل على ضرب الجيش الذي يصفه بـ “الصليبي” وقائده بـ “النصراني المسيحي” وهذا الأسلوب تلجأ إليه الجماعات التكفيرية، التي تسعى الى إقامة “إمارات إسلامية” وتريد إقامة “الخلافة الإسلامية”، عبر إضعاف الجيوش كما حصل في العراق وليبيا وسوريا ومصر.
فاستهداف المؤسسة العسكرية من قبل “قوى إسلامية” يختلف عنه في المرات السابقة التي شهد فيها لبنان أزمات داخلية، إذ كان الإنقسام يأخذ طابعه السياسي لابساً رداء طائفياً ومذهبياً، وهو يرمي الى تدمير الدولة اللبنانية، التي لا تقر أحزاب إسلامية بوجودها، وتعتبرها غير شرعية، وفق أدبيات هذه الأحزاب وأفكارها، وساعدها في ذلك الخطاب المذهبي الذي اعتمدته بعض الشخصيات السياسية والحملات التي قامت بها على المؤسسة العسكرية، في ظل الإنقسام السياسي حيال الأزمة في سوريا.
أكمل الجيش المهمة في الشمال، ونجح في معركته ضد الإرهاب بفضل أبنائها المتمسكين بجيشهم، ولم تغفل عينه عن الجنوب، فأحبط مؤامرة الإمساك بالشمال وعاصمته، ومحاولة التكفيريين جعلهما إمارة، وأفشل إعتداء وشيكا يستهدف الجنوب وأمنه.
وأكد الجيش “أن لا تسويات وأن كل ما قيل عن ممرات آمنة يدخل في إطار الإستغلال السياسي للبعض المتضرر من نجاحه السريع والحاسم في إستئصال هذه المجموعات التي لطالما أسرت مدينة طرابلس وأصلها”، لتحقيق حلمها في إقامة “إمارة إسلامية” في الشمال، هذا الحلم الذي سقط للمرة الثالثة في طرابلس منذ العام 1983 حتى اليوم:
فمنذ عام 1983 حتى عام 1985 كان حلم الإمارة الأولى في طرابلس، في حركة الشيخ سعيد شعبان الذي أعدم وفرض قوانين متزمتة وتعيين أمراء وخلفاء غير راشدين وإلغاء أي دور للجيش، إلا أن مشروع الثمانينات سقط وسحب زعيم “التوحيد الإسلامي” إلى سوريا لتطل الإمارة من جرود الضنية في العام 2000 مع “جماعة التكفير والهجرة” برئاسة بسام كنج “أبوعائشة”، افتتحت عهدها بالإعتداء الدموي على الجيش وأرفع ضباطه وبينهم الشهيد ميلاد النداف، فكان السقوط الثاني لحلم الدولة الإسلامية مع اعتقال المجموعات الإرهابية وفرار بعضها الآخر وتدخل خالد الضاهر وسيطا بين الجيش والإرهابيين.
وتكررت المحاولة في نهر البارد عام 2007، عندما أعلن عن تأسيس جماعة “فتح الإسلام” بزعامة شاكر العبسي والتي اتهمت بتفجير عين علق وبالقيام بالعديد من أعمال القتل على طريقة “الدواعش”، فكانت معركة بمئة وستة أيام ذهب ضحيتها 168 شهيداً للجيش ومدنيين أبرياء ومئات الجرحى، وسقطت الإمارة بفرار زعيمها شاكر العبسي.
وخلال الفترة الفاصلة عن بداية الأحداث السورية، تم الكشف عن الكثير من المخططات التي كانت تسعى تلك الجماعات الى تنفيذها مستهدفة الجيش والعديد من الشخصيات السياسية والدينية، بالإضافة الى استهداف تنظيم “كتائب عبدالله عزام” القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان أكثر من مرة، وإطلاقها المتكرر للصواريخ باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة بهدف إشعال حرب جديدة بين المقاومة والعدو “الإسرائيلي”.
وكانت تبرز، خلال هذه الفترة، بعض أسماء القيادات البارزة في هذه الجماعات، ومنها عبد الرحمن عوض الذي قتل في منطقة شتورا بعد أن نصبت له مخابرات الجيش كميناً من أجل توقيفه، بالإضافة الى كل من توفيق طه وأسامة الشهابي وماجد الماجد وغيرها من الأسماء التي تم الحديث عنها في أكثر من مرة في وسائل الإعلام، وكانت تتخذ من منطقة التعمير في مخيم عين الحلوة مقراً أساسياً لها.
ومع تطور الأحداث السورية التي بدأت في آذار من عام 2011، بدأت تظهر الكثير من المعطيات الأمنية التي تتحدث عن تحرك الجماعات الإرهابية التي تدور في فلك “القاعدة” في لبنان باتجاه الأراضي السورية من أجل تدريب المقاتلين المتشددين هناك، وتم الحديث عن ذهاب بعض القيادات المعروفة في لبنان الى هناك، لا سيما تلك القيادات التي تقيم في عين الحلوة.
من جهة ثانية، شهد سجن رومية عمليات فرار متكررة لسجناء من “فتح الإسلام” تبيّن بعد ذلك أنهم يقاتلون داخل سوريا، في صفوف الجماعات المتطرفة، ومنهم مَن تولى سريعاً مناصب قيادية، وساهمت الأجواء السياسية التي كانت قائمة في لبنان في سهولة تحركهم، لاسيما بعد حملات التحريض التي قام بها العديد من الشخصيات السياسية والدينية ضد المؤسسة العسكرية، والتي عرقلت حركتها في أكثر من منطقة كانت تنشط فيها تلك الجماعات من أجل العمل على تجنيد مقاتلين.
وكان الحدث الأبرز في هذه الفترة، هو إعلان وزير الدفاع الوطني السابق فايز غصن، في أيلول عام 2011، عن عمليات تحصل على بعض المعابر غير الشرعية لا سيما في بلدة عرسال البقاعية، حيث يتم تهريب أسلحة ودخول بعض العناصر الإرهابية التابعة لتنظيم “القاعدة” تحت ستار أنهم من المعارضة السورية، إلا أن الحملة السياسية التي شنّت على الوزير غصن من قبل قوى 14 آذار، والتي حولت القضية الى استهداف لعرسال، منعت الأجهزة الأمنية من متابعة هذه القضية الخطيرة جداً، والتي أظهرت المرحلة اللاحقة أن تأخر المعالجة ساهم في تفاقم الأزمة أكثر.
وهذا الأمر شددت عليه مصادر مطلعة، لتؤكد أنه في ذلك الوقت كان لبنان يعتبر من وجهة نظر الجماعات الأصولية “أرض نصرة”، لكنها حولته الى “أرض جهاد”، بعد أن وضعت لها أكثر من هدف على الساحة اللبنانية، لاسيما على صعيد مواجهة الجيش اللبناني و”حزب الله”، بالإضافة الى تنفيذ عمليات إرهابية في مناطق مختلفة بغرض رفع مستوى التوتر المذهبي وصولاً الى تفجير فتنة كبيرة.
وفي المرحلة الراهنة، لم يعد هناك من فريق سياسي أساسي ينفي وجود هذه الجماعات على الأرض اللبنانية، لاسيما أنها تعلن صراحة عن نفسها بعد كل عملية تقوم بها، وهي تصدر البيانات التهديدية بشكل شبه يومي، إلا أن الخلاف يبقى حول طريقة مواجهتها، خصوصاً أن البعض لا يزال يعتبر أن لبنان لم يكن من ضمن أهدافها، ويرى أن مشاركة “حزب الله” في محاربتها أدت الى قدومها.
وفي هذا السياق، تؤكد مصادر متابعة أن لبنان لم يكن بعيداً عن مخططات تلك الجماعات بأي شكل من الأشكال، والدليل الأحداث التاريخية التي تؤكد أنها كانت فاعلة بشكل كبير منذ سنوات طويلة، وتشدد على أن الخلايا التي أعلن عنها على مراحل ليست إلا جزءاً صغيراً مما هو موجود فعلاً.
وتلفت المصادر الى أن هذه الجماعات تعمل بطريقة هرمية عنقودية، يصعب معها متابعتها بشكل دقيق من جانب الأجهزة الأمنية، لاسيما أن عدد عناصر كل منها لا يتجاوز الستة أشخاص، ولديها قدرة عالية على تأمين الوثائق والأوراق المزوّرة من بطاقات شخصية وأوراق سيارات وجوازات سفر، من أجل تسهيل حركة التنقل.
وتشدد المصادر على أن هذا الأمر يشير الى أن التوقيفات الكثيرة التي حصلت في صفوفها في الفترة الأخيرة، لا تعني القضاء عليها بشكل مطلق، على اعتبار أن هناك أكثر من جهة تعمل على تنفيذ الأهداف نفسها من دون أن يكون هناك أي تنسيق بينها.
بغض النظر عن كل المعلومات التي تمّ الحديث عنها من أجل تأكيد مخططات تلك الجماعات الإرهابية، لا يمكن إنكار الحقيقة المثبتة بأنها استفادت الى حد بعيد من الإنقسام السياسي في لبنان من أجل توسيع رقعة عملها، وساعدها في ذلك الخطاب المذهبي الذي اعتمدته بعض الشخصيات السياسية والحملات التي قامت بها على المؤسسة العسكرية.
وعلى هذا الصعيد، تكرّرت محاولة إشادة أعمدة الخلافة في قلب صيدا في العام 2013، مع ظاهرة الشيخ أحمد الأسير بجناحين: عسكري يتخذ من مسجد بلال بن ربّاح في عبرا ثكنة له، وفني يتولاه فضل شاكر، والهرب كان مصير الشيخ والفنان (24 حزيران 2013) لكن بعدما دفع الجيش ثمناً ناهز واحداً وعشرين شهيداً.
إلا أن هذه المرة لم تبتعد المسافة الزمنية، وعلى مرمى سنة واحدة كان الإرهاب قد استعد للضرب في عرسال التي فيها ترتفع رايات الدولة الإسلامية، ويقتل على أطرافها وجرودها جيش وقوى أمن ويخطف عسكريون، في محاولة لبلوغ حلم الإمارة وتمّ ربط الشمال بالقلمون على ما اعترف أحمد سليم ميقاتي، الذي يعمل منسقاً لإرسال شبان مضللين الى “داعش” في جرود القلمون السورية، والذي تربطه علاقة قربى مع الإرهابي أبو هريرة ذابح الجندي الشهيد علي السيد، وكان على إتصال دائم من هاتفه الخاص بالنائب خالد الضاهر، وكان ينسق معه عبر “الواتس آب” ويرسل له أشرطة فيديو الجنود الفارين، والذي اعترف أنه كان يريد “احتلال” بلدات بخعون وبقاعصفرين وعاصون (البلدة التي أوقف فيها)، كونها غير ممسوكة أمنياً، وأن خطته كانت تقضي بوصل طرابلس بالضنية عبر بحنين، التي تربطها بالضنية طريق عيون السمك، تمهيداً لربط هذا “المثلث” بمنطقة عرسال ومنطقة القلمون السورية، ووضع قدم لهذه “الإمارة” عند شاطىء البحر، إما في طرابلس أولاً، أو في بحنين كخيارٍ ثانٍ، وأن مولوي ومنصور كانا يعلمان بتفاصيل هذا المخطط الذي كان يفترض البدء به بعد قرابة شهر .
أما سبب اختيار ميقاتي للبلدات المذكورة دون غيرها من بين بقية بلدات الضنية الـ 48، فيعود إلى أن هذه البلدات تعدّ من بلدات الاصطياف الرئيسية في المنطقة. وخلال فترة الصيف يزيد عدد المصطافين فيها على أعداد سكانها بأضعاف، ما يوفر لخلاياه العمل بهدوء بعيداً عن الشكوك، خصوصاً أن المنطقة تخلو من مراكز عسكرية أو أمنية كبيرة، ما أعاد الإرهاب إلى نقطة الانطلاق، إلى الضنية، وكان يأمل أن ينشر دعوته قبل أن يطبق عليها الجيش من حيث اعتقد الإرهابيون أنه عبر “عاصون” في لبنان تمر الإمارة التي كان آخر فصولها هروب يلجأ إليه الأمراء يتقدمهم: شادي المولوي وأسامه منصور وخالد حبلص.
إلا أن المفارقة أنه في عام 1983 عندما طرأت أول إمارة في طرابلس لم يكن “حزب الله” قد حط على الساحة بعد، وفي عام 2014 كان جبل محسن وقياداته قد توارت عن مشهد القتال، بما يعني أن الإمارة لن تحتاج إلى سبب لارتفاعها في أي منطقة من لبنان.
لم تُختم المحاولات الإرهابية، والهاربون ربما كرروا التجربة من أي منطقة بمناخ مؤهل له، لكن الجيش حط من عزائم زعماء الإرهاب وشيوخهم، وبموقف معروف وحاسم إستكمل الجيش خطاه شمالا، وأحكم السيطرة على باب التبانة، فكك العبوات، أسكت رصاص المسلحين وبعض المتحصنين في محيط بحنين، وأثبت أن الأمن لا يؤخذ إلا بالقوة.
الثابت أنّ المعارك في طرابلس والشمال توقفت. والثابت أيضاً أنّ المسلحين التابعين لـ “جبهة النصرة” وتنظيم “داعش” وبعض المجموعات المحلية، اختفوا، منقسمين ربما الى مجموعتين: إحداهما فرّت من طرابلس إلى مناطق مجاورة (مصادر أمنية قالت إن جزءًا منهم انتقل إلى جرود الضنية)، والثانية بقي أفرادها حيث هم، في طرابلس. لم يختلف أحد على هذه الوقائع. لكن ما لم يُتّفق عليه هو كيفية توقف المعارك.
السياسيون والأمنيون تحدّثوا عن تسوية أدت إلى رمي المسلحين لأسلحتهم، لكن قيادة الجيش نفت وتنفي ذلك. وكان قائد الجيش العماد جان قهوجي في السرايا الحكومية (في اجتماع أمني ترأسه الرئيس تمام سلام، وبحضور وزراء الدفاع والداخلية والعدل وقادة الأجهزة الأمنية) تحدّث عن استمرار الجيش في عمليته العسكرية إلى حين القضاء على المسلحين أو توقيفهم.
ما حصل في طرابلس يجب التوقف عنده، وما جرى لم يأتِ من فراغ، وكل الدلائل والمؤشرات تؤكّد بأن هناك إرادة تخريب كبرى للبنان من قبل المجموعات الإرهابية، وهناك دور لقوى إقليمية تسعى للتخريب وهذا ليس معزولاً عن دور المجموعات “الداعشية” في العراق وسوريا، وهناك أيضاً بيئة حاضنة لم تستكمل استعداداتها بعد وهي كانت تنتظر فرصتها.
والسؤال هنا يتعلّق بدور القوى السياسية التي لها اليد الطولى في طرابلس، ومطلوب منها إظهار مدى فاعليتها في حماية المدينة وما حولها، بالإقلاع عن الخطاب التحريضي الذي لا يجلب إلا الكوارث، وهو يستدعي “التكفيريين”.
موقف الجيش كان واضحاً وحازماً وانطلق من قاعدة تقول “إما الدولة وإما الإمارة” ومن هنا كان الجيش مبادراً وصاحب قرار المواجهة.
ففي عبرا حسم الجيش المعركة وتوارى الشيخ أحمد الأسير، في عرسال لم تحسم المعركة، وتسببت منذ اليوم الأول في معضلة العسكريين المخطوفين التي مازالت ارتداداتها مستمرة حتى اليوم.
في طرابلس هناك شيء مشابه لعبرا إلى حد أن البعض سماها “عبرا إثنين”، فعلى غرار الشيخ أحمد الأسير، توارى من بحنين الشيخ خالد حبلص ومن طرابلس شادي المولوي وأسامة منصور.
ربما من السابق لأوانه إعطاء التقويم النهائي لما جرى، لكن النتائج في طرابلس مشابهة تقريباً للنتائج في عبرا، مع فارقٍ أساسي وهو أن الشمال أوسع بكثير جغرافيا وهو على تماس مع الحرب السورية، ومن باب التسرع الجزم بأن ما حدث هو المعركة الأخيرة وإن كان الحسم على الأرض أوحى بذلك.
عبرا، عرسال، طرابلس، فهل سقط مخطط إعلان الإمارة من الشرق إلى البحر؟
ليديا أبودرغم