في ظل الاصطفاف الحاد والانقسام الكبير بين الكتل النيابية يكاد يكون مستحيلاً على البرلمان اللبناني انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولعل الذين يتراشقون الكلام ونبش القبور و يتبادلون الاتهامات بتعطيل هذا الاستحقاق ، يدركون بأن الاستحقاق الرئاسي مؤجل الى وقت غير مسمى لانتخاب رئيس للبلاد اصطلحوا على تسميته «من صنع لبنان».
بالطبع يغالي رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أكثر من غيره عندما يتوقع انفراجاً في لحظة ما كما حصل لدى ولادة حكومة الرئيس سلام بعد نحو أحد عشر شهراً، ثم التوافق على بيانها الوزاري فإقرار الخطط الأمنية وإطلاق يد الجيش والأجهزة الأمنية لوقف التدهور في طرابلس وغيرها من المناطق الاخرى.
بالمقابل لن تحصل معجزة أو مفاجأة كبيرة. لن يكون استحقاق الرئاسة في عام 2014 مغايراً لما سبق منذ ان نال لبنان استقلاله . فانتخابات الرئاسة لم تكن يوما خياراً داخلياً إلا في ما ندر. لم يكن كذلك في أحسن الظروف فكيف يكون اليوم فيما المنطقة تعيش على وقع صراع مذهبي، وتواجه سورية حربا كونية متعددة الجنسيات والأطراف الإقليمية والدولية فضلاً عن الهجمة التكفيرية التي تحاول النيل من وحدة السوريين وتعمد على تهجيرهم وتدمير قراهم ومدنهم.
من المفيد ألا يغالي جعجع الذي يكاد يخير اللبنانيين بين انتخابه أو توقع الفوضى. ويتناسى أنه كان ولا يزال جزءاً من الانقسام الداخلي. وجزءاً من الأزمات التي يعيشها البلد، سواء زمن “المحكمة الدولية” أو بعده.. لذلك من العبث مواصلة الاستمرار في ترشيحه الذي يفاقم الانقسام. ولا طائل عند فريق 14 آذار من إضاعة الوقت في محاولات يائسة لإيصال مرشح لا يحظى بالاجماع. أو بالأصح لا يلقى توافقاً من غالبية الكتل النيابية ،الامر الذي افقدهم فرصة «تقديم» مرشح اجماع من صفوفهم يقدمونه إلى شركائهم، كما فعلوا في مناسبات قليلة ماضياً.
سيمر وقت قبل أن ينسحب جعجع من الميدان. هو يعرف سلفاً صعوبة التوافق عليه. فأقطاب فريق «14 آذار» يريدون من وراء التمسك بترشيحه الوصول في النهاية إلى إسم آخر من تكتلهم أكثر قبولاً لدى الطرف الآخر، يقدمونه بمثابة تنازل. أما قوى “8آذار” التي تنتظر التوافق على الجنرال ميشال عون فقد تنتظرالى حين بعد ان بادرت في الجلسة الاولى للانتخابات الى مقابلة الفريق الآخر بفتح ملفات قديمة لمرشحه المعلن ، الامر الذي ساهم الى حد كبير الى ضرب المساعي الى التوافق على الاقل في المدى المنظور حول الرئيس العتيد .
لم تحصل معجزة في التوافق على تشكيل حكومة سلام أو على اطلاق الخطط الأمنية في المناطق اللبنانية . استغرق الرئيس تمام سلام 11 شهراً كانت لتقديم تشكيلة لم تستثن أحداً أو تغلب فريقاً على آخر. فهل يعقل بعد هذه التجربة أن يفكر جعجع في أنه قادر على الوصول إلى بعبدا من دون الحصول على مباركة كل هؤلاء الممثلين في مجلس النواب ؟ لعل ما دفع إلى قيام حكومة سلام هو إدراك المعنيين المحليين والاقليميين والدوليين أن التوافق على الرئيس الجديد ربما استغرق وقتاً طويلاً، فكان لا بد من ملء الفراغ بحكومة تسير شؤون الناس حتى خروج الدخان الابيض المنتظر من ساحة النجمة ، أو ربما أكثر من دخان ابيض من خارج الحدود.
فالتوافق الاقليمي والدولي كان بالطبع وراء ولادة حكومة الرئيس سلام التي ولدت وسط الأجواء المختلفة في المنطقة بدءا من المحادثات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني والحوار القائم بين واشنطن وطهران. وفي هذا المجال يتوقع المراقبون ان هذه المحادثات ما زالت في بداياتها وتحتاج الى وقت طويل للوصول الى خواتيمها لارتباطها بأكثر من من طرف وملف وقضية في المنطقة لذا لن يكون بمقدور النواب اللبنانيين اليوم أن ينتخبوا رئيسهم داخل الحدود لأن التوافق الخارجي ليس في متناول أيديهم. سيكون عليهم انتظار تبلور نتائج الانتخابات الرئاسية في كل من العراق وسوريا اذ ان هناك ترابط بين هذه الاستحقاقات لا يجب تجاهله أو التقليل من أهميته.
لا بد إذاً من انتظار التوافق بين اللاعبين الإقليميين ومن خلفهم القوى الدولية قبل أن يتقدم اللبنانيون بحثاً عن رئيس قوي يحظى بقبول المكونات الاساسية في المجتمع ما دام أن المسيحيين والموارنة خصوصاً سلموا بعجزهم عن التوافق على مرشح واحد يتقدمون به إلى شركائهم في الوطن .لا مناص من رئيس جمهورية والمنطقة على انقسامها، ولبنان جزء من هذا الانقسام بل جبهة متقدمة فيه دون ان ننسى الصعوبات الأمنية والاقتصادية على اللبنانيين بفعل هذا الكم الكبير من اللاجئين السوريين ، فضلا عن تفاقم الحراك الاقتصادي الداخلي للهيئات التنسيقية …. ولعل ذلك يشكل مدخلاً لتوافق خارجي وداخلي على شخص الرئيس العتيد للجمهورية .